مثقفو العراق في قبضة "العصائب"

مثقفو العراق في قبضة "العصائب"

14 نوفمبر 2018
+ الخط -
سؤال الثقافة في العراق حاد وجارح، فمذ قدر لبغداد أن تسقط تحت سنابك الاحتلال، وآفاق العملية الثقافية تضيق. تصدّى لإدارة الثقافة أكثر من وزير، لكن الناتج طوال السنوات العجاف التي مرّت كان صفرا، فرضت المحاصصة الطائفية التي شرعنها الأميركيون نفسها في تولي أناسٍ ليس عندهم من الأمر شيء. على وفق هذه القاعدة، تم ترشيح أحد أفراد ميليشيا "عصائب الحق" لقيادة العملية الثقافية والتخطيط لها. وصفته نقابة الفنانين بأنه "ليس له باع في الثقافة العراقية، ولا يميز بين المسرح والفن التشكيلي". شعر المثقفون بالإهانة، أطلقوا موجة ردود أفعال شاجبة، ومطالبة بإسناد حقيبة الثقافة إلى شخص مؤهل، مثقف وخبير ومعايش للوسط الثقافي، وهدّدوا بأنهم، في حال الإصرار على توزير المرشح، سوف يقاطعون كل نشاطات الوزارة وفعالياتها.
ما حدث بعد ذلك كان مدعاةً للأسى. استنفر "العصائبيون" قواهم، بعد ما شعروا أن الأمر قد يخرج من بين أيديهم. استدعى شيخهم، قيس الخزعلي، القيمين على منظمات الأدباء والكتاب والفنانين والصحافيين، وطلب منهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن ينضووا، طائعين أو مرغمين، تحت راية "العصائب"، وأن يقبلوا إدارتها للعملية الثقافية، و"إنها مصرة على استلام وزارة الثقافة، إيمانا منها بأهمية هذا المفصل في بناء الدولة"!
استسلم المعنيون لتقريع "العصائب"، راجعوا أنفسهم، ولحسوا تهديداتهم بالمقاطعة. تذكّر أمين عام اتحاد الأدباء، إبراهيم الخياط، "أن المثقف والسياسي العراقي في مركب واحد، ويجب إيصال هذا المركب إلى بر الأمان". كان الخوف من الغرق معا هاجس الجميع. عاهد نقيب الفنانين، جبار جودي، "العصائب" بأن نقابته "سوف تضيف إلى المشهد الفني لغةً عالمية عكس ما كانت عليه مسبقا (؟)"، لم يتخلّف نقيب الصحافيين، مؤيد اللامي، عن الإعراب عن "ثقته بسماحة الشيخ الأمين في دعم اختيار الشخصية المناسبة لمنصب وزير الثقافة".
هكذا اكتمل عرس التمهيد لاستيزار المرشّح لحقيبة الثقافة، على النحو الذي نشر على الموقع الإلكتروني للعصائب، لكن اللافت أن المواقع الإلكترونية للمنظمات المعنية بالثقافة، والتي حضر ممثلوها تجاهلت خبر العرس، ولعلها فعلت ذلك، بعدما ثقل عليها الأمر واضطرب.
هكذا، وفي غفلةٍ من التاريخ، يقدر لبغداد العظيمة التي ترقد على حضارات سبعة آلاف عام، وتتوسّد عقول البشرية ومنجزاتها، والتي شهدت عظمة الرشيد والمأمون أن تنكفئ اليوم تحت
وقع التخلف الذي يمارسه "العصابيون"، وحملة الرايات السود. وفي ظل هذا المناخ الهجين، يتوّهم مثقفو العراق ومفكّروه أن الاستسلام لسطوة المليشيات "الوقحة"، بتعبير مقتدى الصدر، يمكن أن يحميهم، ويكفل لهم بعض الفتات الذي يقيهم صروف الدهر.
هكذا أيضا يسقط خيار "العقل" الذي كان يروّجه رئيس اتحاد الأدباء، ناجح المعموري، كما تسقط تنظيراته في خوض معركة "تحرير عقل المواطنين من الأفكار المتشدّدة، ذلك لأن عدم التمكّن من تحرير العقل العراقي سيبقيه خاضعا للعنف والظلامية"، بحسب ما كتب.
هنا لم يذهب المثقف العراقي الذي يمثله "اتحاد الأدباء"، في دعوته إلى تحرير العقل من الأفكار المتشدّدة، إلى ديكارت أو هوبز أو جون لوك، ولا إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن خلدون، ولا إلى رفاعة الطهطاوي أو طه حسين أو علي عبد الرازق الذين قال المعموري إن اتحاده العتيد سوف يذهب إليهم، لكنه استدار وانضوى تحت سطوة "العصائب"، لزوم الرزق والوجاهة وراحة البال. تلك هي المسألة التي قال بها هاملت في مسرحية شكسبير المعلومة.
المشهد الثقافي العراقي الماثل إذن في محنة، خيارُه يائس، وطموحه محدود، ومنظماته عاجزةٌ عن رؤية الطريق، ومناخُه أكثر عتمةً وقتامةً، والمثقف لا يملك شيئا لتحريك الساكن، ولا شيء يوحي بقدرته على الفعل، وقد أصبح أسير نزعةٍ استسلاميةٍ للقبول بالأمر الواقع، والتماهي مع ما تخطّط له قوى المحاصصة، تكفيه سفرة أو سفرتان إلى الخارج، ومنحة مالية موسمية، وامتيازات ووجاهة اجتماعية، والتنكّب عن السير وسط الألغام، أو الوقوع تحت رعب "كواتم الصوت"!
عندها، لن يجد المثقف ضيرا في أن تتحول بيوت الجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف وشفيق الكمالي وجواد سليم ومحمد غني حكمت ورفائيل بطي ومحمد القبانجي وسواهم إلى ساحاتٍ معتمةٍ لإقامة المناحات، وممارسة "التطبير" والتأسيس الممنهج لثقافة الموت، وتغييب دور العقل، وتحويل أدباء بلاد الرافدين، وشعرائها وكتّابها، وفنانينها وصحافييها، إلى مطبلين و"مطبرين"، وتلك هي الكارثة.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"