في تذكّر عثمان بيّومي

في تذكّر عثمان بيّومي

05 أكتوبر 2018

(لؤي كيالي)

+ الخط -
تكتمل الأسبوع المقبل ثلاثون عاما على نيْل نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب. جاء بيان الأكاديمية السويدية، في إعلانها ذلك الخبر الذي نشتهي مثلَه لأديبٍ عربيّ آخر، أن محفوظ أسهم في تطوير اللغة العربية في الأوساط الثقافية على امتداد العالم. وهذه عبارةٌ مرسَلة، مجامِلة، غير دقيقة. .. ولكن لا بأس، طالما أن البيان تضمّن أن إنتاج محفوظ أعطى "ازدهارا قويا" للرواية، وأن أعمالَه "تُخاطبنا جميعا"، فهذان قولان صحيحان، ولا يجاملان. وجاء البيان على بعض روايات محفوظ، وتحديدا الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، و"زقاق المدق" و"أولاد حارتنا" و"ثرثرة فوق النيل"، وأيضا على قصص "دنيا الله". وإذ لم يكن ميسورا أن تستعرض الأكاديمية السويدية (ما أخبارها في هذه الأيام؟) في بيانِها، المُقتضب كما العادة، أعمالا أخرى من إبداعات محفوظ القويّة، جمالا فنيا، وتميّزا في مبناها ومرسلاتها الفكرية، فإن في الوُسْع أن يُؤخَذ عليها إغفالُها واحدةً من "أخطر" روايات أديبنا الشهير، "حضرة المحترم" (1975)، طالما أنها أشارت إلى "ثرثرة فوق النيل"، المهمّة طبعا، لكنها الأقلّ قيمةً (بحسب صاحب هذه الكلمات وكثيرين) من هذا النص الفاتن، لغةً، ومعنىً، وإيحاءً، وتكثيفا (156 صفحة في أحدث طبعاتها في 2015). 

خطورة ما صنعه نجيب محفوظ في بنائه شخصية بطل هذه الرواية، عثمان بيّومي، أنه جعله يمضي بنفسِه إلى دماره الذاتي، من دون كثير تدخّلٍ من الأقدار والمصادفات، عندما كدّ هذا الرجل كثيرا، وتعب، وأرهق روحَه، وانصرف عن مسرّات الحياة، وذلك كله فقط من أجل أن يصعَد في وظيفته، أكثر وأكثر، وصولا إلى وظيفة مدير عام المؤسسة الحكوميّة التي التحق بها، ومعه البكالوريا، موظفا متواضع المنزلة في قسم المحفوظات، ثم يُحرز الشهادة الجامعية، ويمضي إلى مُرادِه، بحدْبٍ كثير، يبرع نجيب محفوظ في توصيفه. وعندما يكون على فراش الموت، مريضا، يبلُغُه خبرُ تعيينه مديرا عاما. وبالتأكيد ليست "حضرة المحترم" حدّوتةً (وإنْ أُنجِزت مسلسليْن، إذاعي وتلفزيوني)، لتوجَزَ على هذا النحو، الاختزالي البائس، وإنما هي واحدةٌ من حبّاتٍ ثمينةٍ في عنقود نجيب محفوظ البديع، واحدةٌ من مداميك عمارته الروائية.
لم تحفل الأكاديمية السويدية، قبل ثلاثين عاما، بالموظف المصري عثمان بيّومي. ولكن من قال إن لفعلتها تلك أثرا على موضع هذا الرجل (هذه الشخصية) في متن الرواية العربية وذاكرتها؟ وإذا صحّ أن الجوائز، "نوبل" وغيرها، تُساهم في مقروئية هذا العمل الأدبي أو ذاك، وفي الإضاءة على إنتاج هذا الكاتب أو ذاك، فإنها أبدا لا تقْدر على إزاحة راسكولينكوف الروسي دوستويفسكي في "الجريمة والعقاب"، ولا ميميد التركي يشار كمال في "ميميد الناحل"، ولا ميرسو الفرنسي ألبير كامو في "الغريب"، ولا رجب السعودي عبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط"، ولا عثمان بيّومي المصري نجيب محفوظ في "حضرة المحترم"، الموظف العتيد الذي لولا إيمانُه بأن الدنيا مقدّسةٌ بما هي من صُنع الله لرضي بحياة البهائم. إنه يعتنق أن الوظيفة حجرٌ في بناء الدولة، والدولةُ نعمةٌ من روح الله مجسّدةٌ على الأرض.
أبدع محفوظ لغةً تمتحُ من إشراقاتٍ صوفيةٍ عاليةٍ، وهو يعبّر عن جوانيّات عثمان بيّومي ودواخله في تعبّده في محراب الوظيفة، وفي سعيه الشقي، وهو يصعد سلالم الترقّي من مرتبةٍ إلى أخرى، وهو يتحسّب من المصادفات، ومما لا قِبل له بمواجهة مفاجآتٍ يتعثّر فيها. يتزلّف إلى رؤسائه، ويتفانى في إرضائهم، ويعزفُ عن أي مباهج في الحياة، ويُغالي في التقتير على نفسِه، ويروّح عن روحِه بشيءٍ من الجنس مع مومس. وعندما يريد أن يتزوّج، يحتاط من أن تودي حسابُاته في هذا الشأن ما يخطّط، لكنه يتزوّج أخيرا من المومس التي تُتْعبه لاحقا، ثم يقع في تدبير سكرتيرته التي تتزوّجه أيضا، وبعد حياةٍ يابسةٍ، مضنيةٍ في مسارها نحو هاوية الذات، وانتحار الجوهر والمعنى في الحياة، يموت. وقد أمضى دُنياه من دون انتباهٍ إلى الزمن وجريانِه، واكتفى بأن "يشتعل"، كما يقول في مناجاةٍ، مرّة، مع الله، وهو يمنّي النفس بحجرة المدير العام، في مكابدةٍ روحيةٍ ونفسيّةٍ، وهو يتغيّا مجدا في علياء الوظيفة.
قَتَلَ عثمان بيومي نفسَه بنفسه، تَركَه نجيب محفوظ يمضي إلى مصيره، خابت مقاصدُه في خواتيم حياته، ثم لم تكترث الأكاديمية السويدية به، لم تتذكّره، وهي تعطي صانعَه الأمهر جائزة نوبل.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.