أوقفوا مسيرات العودة

أوقفوا مسيرات العودة

15 أكتوبر 2018
+ الخط -
نشرت "العربي الجديد" للكاتب عيسى الشعيبي، في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، مقالة نابهة، ووفيرة الأهمية، دعت إلى مراجعة مسيرات العودة الفلسطينية، واشتملت على إضاءاتٍ وافيةٍ على مسألة هذه المسيرات الأسبوعية التي تنتظم، منذ ذكرى يوم الأرض، في 30 مارس/ آذار الماضي، وما وعدت به من مغازٍ ومضامين كفاحيةٍ ووطنيةٍ فلسطينية. وأحاطت المقالة بالأجواء والأسباب التي أخذت هذه المسيرات إلى أن تصبح حدثا روتينيا شديد العادية. وبدا أن اكتفاء الكاتب الصديق بدعوته إلى "إخضاع هذه الظاهرة الكفاحية النبيلة لعمليةٍ نقديةٍ عاجلة" يضمر مقصدا آخر، لم تنطق به المقالة صراحةً، وإنما آثرت الإيحاء به، وهو ضرورة وقف هذه المسيرات الأسبوعية التي تؤدّيها جموعٌ جسورةٌ من أهل قطاع غزة. أما صاحب هذه الكلمات، فيبقّ البحصة هنا، بعد استشهاد سبعة فلسطينيين في مسيرة يوم الجمعة الماضي، ويلحّ على وجوب هذا الأمر، وفورا، بالنظر إلى أنه تأخّر. وكان يحسُن بالقائمين على تنظيم هذه الفعالية التي بشّرت بالكثير إبّان انطلاقتها أن يتداركوا سوء تقديرهم، بعد أن استشهد 63 من الفلسطينيين الغزّيين، في نحو خمس ساعاتٍ فقط نهار ذلك اليوم الدامي الذي دشّن فيه أهل القطاع هذه المسيرات قبل ستة شهور. ذلك أن سقوط هذا العدد الهائل من الشهداء، فضلا عن أن مئات المصابين فقدوا أقدامهم، أو لحقت بهم إعاقاتٌ ظاهرة، كان أدعى إلى أن يُعيد الفاعلون في اللجنة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار النظر بشكلٍ عاجل في طرائق تسيير هذه المسيرات وحركتها، وإن انتهت إعادة النظر هذه إلى وقف المسيرات، بعد أن بان مجدّدا أنه ليس من شيءٍ أيسر على الوحش الإسرائيلي من إطلاق الرصاص على الفلسطينيين، المدنيين العزّل، المنكشفين أمام هواية القتل المستوطنة في عقل المحتل. 

لم تجر هذه المراجعة، ولم يلتفت الجمعُ الطيب والمتعدّد في اللجنة إلى أن تلك المقتلة لم تُحدِث استنفارا إعلاميا، ولا اكتراثا دوليا، بل ولا حتى حراكا سياسيا فلسطينيا، فباستثناء بيانات تنديدٍ متعجلةٍ، مضت الواقعة المروّعة إلى الأرشيف، كما كثيراتٌ سابقات. وكان هذا الأمر سببا مضافا يبعث على وجوب المراجعة العاجلة، غير أن ما جرى هو المضي في المسيرات وكأن شيئا لم يكن، بالتوازي مع تآكل الزخم الإعلامي بشأنها، وتبدّد الآمال والرهانات عليها، ولو المعنوية، وكذلك بالتوازي مع بؤسٍ في أداء اللجنة الوطنية التي طالعنا أن حركة حماس صارت تستأثر بقراراتها، وأن صفتها الوطنية الجامعة فقدتها. وفي الأثناء، لم يتوقف المعتدي الإسرائيلي عن القتل الأسبوعي. وقد دلّ ذلك كله على أن الأداء الفلسطيني العام عاجزٌ عن اجتراح وسائل خلاقةٍ ومبتكرةٍ، يتكامل فيه الجهد الإعلامي بالعمل الجماهيري مع الحراك السياسي. وكيف للفلسطينيين أن يفعلوا ذلك، وهم في انقسامٍ سياسيٍّ وجغرافيٍّ مشين، وفي مناكفاتٍ لا تتوقف بين أهل سلطةٍ هزيلة في رام الله وأهل سلطة أمرٍ واقعٍ في غزة.
لم يأت الرئيس محمود عباس في خطبته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، على استسهال المحتل الباغي إزهاق أرواح شبّان وشابات فلسطينيات يعتصمون على تخوم قطاع غزة، في نشاط رمزي وكفاحي مدني، ومنهم ممرّضة (رزان النجار)، قضت شهيدة في يوم الجمعة العاشرة من مسيرات العودة في يونيو/ حزيران الماضي، اليوم الذي أصيب مائة شاب وشابة آخرون بجروح، تسببت لكثيرين منهم بإعاقاتٍ ليست هيّنة. لم ينطق عباس بشيء عن الجرائم الإسرائيلية الأسبوعية، وإنما آثر تهديد حركة حماس بوعيدٍ غير لائق أمام المنتظم الأممي. وفي المقابل، كانت العنتريات تتوالى، من دون استشعارٍ ظاهرٍ لفداحة خسران الفلسطينيين هؤلاء الشباب أسبوعيا، فقد قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، إن مسيرات العودة ستتواصل حتى تحرير القدس. والبديهي أن مهمّة هذا التحرير لا يمكن أن تكون منوطةً بالغلابى المُتعبين المحاصرين في قطاع غزة. وكان من شديد البؤس، إنسانيا ووطنيا وإعلاميا، أنّ هناك في الحركة الإسلامية من تباهى بأن أغلب شهداء مسيرات العودة هم من أبناء هذه الحركة. وبعيدا عن أن هذا غير صحيح، وأن العدو الإسرائيلي استثمره إعلاميا، فإن المباهاة بكثرة أعداد الشهداء سلوكٌ كان الظن أن الفلسطينيين تخلصوا منه منذ زمن. ومن شديد الأسى أن يقيس بعضُهم، في "حماس" وغيرها، وقع مسيرات العودة بوفرة عدد الشهداء فيها (كم عددهم بالضبط؟ أكثر من مائتين ربما).
من دون تطويل كلام.. أوقفوا هذه المسيرات، إنقاذا لأرواح أهل قطاع غزة، حماهم الله وأبقاهم.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.