شيء من جلال أمين

شيء من جلال أمين

02 أكتوبر 2018
+ الخط -
عندما اختير أستاذ الاقتصاد، جلال أمين، رئيساً للجنة التحكيم للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورتها السادسة عام 2013، ثار استغرابٌ كثيرٌ، سيما لدى من لا يعرفون طبيعة هذه الجائزة، ولا يدرون أنه حَدَثَ في إحدى دورات نسختها البريطانية (الأصل) أن وزيراً سابقاً للدفاع اختير لرئاسة لجنة التحكيم، وذلك كله صدورا عن أنها، في العموم، جائزة ذوّاقةٍ وقرّاء، وليست جائزة نقادٍ وأدباء. وقال جلال أمين نفسُه إنه استغرب اختيارَه لهذا الأمر، بالنظر إلى أنه مفكّر اقتصادي، على الرغم من محبّته الأدب. وللحق، استحقّت الرواية الفائزة الجائزة الأولى في تلك الدورة بجدارة، وهي "ساق البامبو" للكويتي سعود السنعوسي، لما اشتملت عليه من جدّةٍ ظاهرةٍ في المبنى والمعنى.
لا يُؤتى هنا على تلك المسألة بمناسبة وفاة جلال أمين الأسبوع الماضي، عن 83 عاماً، وإنما أيضاً للتذكير بأنه درس الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد في جامعة لندن، وعمل أستاذاً في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، وفي الجامعة الأميركية في القاهرة، واعتنى، في الوقت نفسه، كثيراً باللغة العربية في بلادِه، وظلّ يؤشّر إلى تردّي أحوالها، بل إنه خصّ هذه القضية واحداً من محاور كتابه الرائق، والأكثر ذيوعاً ومقروئيةً بين مؤلفاته، "ماذا حدث للمصريين.. تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945 – 1995" (طبعته الأولى في 1998). وفي العودة إلى قراءة ما كتبه جلال أمين في هذا الموضوع في الكتاب فائدةٌ كثيرةٌ، إذ لم يكتف الراحل باستعراض أوجهٍ كثيرةٍ لتدهور صحّة اللغة العربية في مصر (بتعبيره)، وإنما اجتهد في تفسير أسباب اعتلالها، وأعاده إلى عوامل اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، وكان حاذقاً في هذا، وأضاف إلى ذلك أن "مرضاً نفسياً" نجم عن هذه العوامل، جعل اللغة العربية في حالها الذي يبعث على الأسى (بمفردته).
لم يقدّم جلال أمين، في إتيانه على هذه المسألة، تشريحاً استقصائياً، يقوم على فحصٍ ميدانيٍّ ومؤشراتٍ رقمية، وإنما جال في مظاهر بيّنةٍ توضح المدى الذي بلغه حالُ اللغة العربية المؤسف في مصر. وبلُغته التي تتوسّل التأمل وبسط الفكرة ببساطةٍ وعمقٍ في آن، بدا حريصاً على إظهار العامل الاجتماعي والطبقي، في مسار تحوّل اللغة العربية من حالٍ إلى آخر، مما كانت عليه زمن قبل ثورة يوليو 1952 إلى ما صارت فيه بعدها. وقد عاب على ضباط الثورة حديثَهم بالعامية، وعدم قدرتهم على التحدّث بعربيةٍ طلقةٍ، فيما كان من معايير الحكم على هذا السياسي أو ذاك قوّة بيانه وجمال لغته. وللحق، أصاب الرجل كثيراً لمّا كتب أن "المرض الحقيقي لا يكمن في أن عدداً متزايداً من الناس لم تعد لديه القدرة على التعبير السليم بالعربية، بسبب عدم معرفته بقواعد هذا التعبير السليم، بل إن عدداً متزايداً من الناس لم تعد لديه الرغبة في ذلك". وجاء، من بين ما جاء عليه من اختلالاتٍ في شأن اللغة العربية في مصر، على الانخفاض الملحوظ في مستوى المعلّمين في مصر، بمن فيهم معلمو اللغة العربية.
يصدُق ما كتبه جلال أمين في "ماذا حدث للمصريين ..." عن مرض اللغة العربية في مصر على الحادثِ بشأنها في غير بلدٍ عربي، ومن ذلك أن "الخطأ في اللغة لم يعد شيئاً يستحي منه المرء، بل أصبح لفتُ النظر إلى الخطأ، وإعطاؤه أي اهتمام، هو ما يستحي المرء منه". و"لم يعد التزام الكلام والكتابة بلغةٍ عربيةٍ صحيحةٍ هو مجال الفخر، بل العكس بالضبط هو الصحيح". وعندما يضع المثقف المصري الراحل موضوعة اللغة العربية واحدةً من مظاهر اعتلالٍ حَدَثَ للمصريين، فإن جهدَه هذا يستحقّ تثميناً خاصاً، وأن يوضع بين خياراتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ انتسب إليها في الزمن الذي كان فيه مثقفاً جديراً باعتبارٍ خاص، قبل أن يسيء، هو نفسُه، إلى شخصِه ومنجزه، عندما غالى كثيراً في ذمّ الثورات العربية، وعندما أفرط في الالتحاق بسلطة عبد الفتاح السيسي، الأكثر انتهاكاً للغة العربية من سابقاتها بالمناسبة، فاستحقّ أمرُه هذا السؤال الذي شاع تالياً: ماذا جرى لجلال أمين؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.