صناعة الظلم وزراعة الكراهية

صناعة الظلم وزراعة الكراهية

19 يناير 2018
+ الخط -
أخطر ما يحدث في مجتمعنا المصري من خلال النظام الانقلابي الفاشي هو ما يطاول المجتمع في قاعدته الرئيسية، وشبكة علاقاته الاجتماعية والمجتمعية، ذلك أن تلك الشبكة، لو ظلت قوية، لكانت ميزاناً للوطن، يحمي أصوله ورصيده في بناء الوطن، لما يستأهله من صناعة الأمل التي تحقق تشييداً وعمراناً لمصر الجديدة، وإقامة أسس دولة يناير. ولكن، للأسف الشديد، أخطر ما استهدفته هذه المنظومة الانقلابية، وذلك المستبد الذي تمكن، في أحايين كثيرة، من تمزيق هذه الشبكة في خيوطها، وفي أصولها، وتوتر كل خيوط المجتمع في حالة من التشنجات الاستقطابية إلى الحد الذي تسود فيه لغاتٌ من التخوين والتكفير والسب والهجاء بين رفقاء الأمس للثورة المصرية، لينعم المستبد ويرتع في مساحات الفرقة والتفرّق والتنازع، فيؤمن حركته، ويكرس سلطانه، ويمد في سياسات طغيانه.
ومن ثم، حينما يقوم ذلك النظام الاستبدادي بتصنيع عمليات الظلم التي تشيع في أرجاء الوطن، وتطاول كل أحد مهما كانت انتماءاته، ومهما كانت تصنيفاته، فقط حينما يقول لا للنظام، فإنه يصير هدفاً للتنكيل به، وترويع أسرته وعائلته، بما يمكن من شبكات التخويف والترويع. وها هي صناعة الظلم تعشش في أرجاء الوطن، فتخرب وشائج الوطن والمجتمع. هل تعلم أن الأم أو الأب أو الأخت أو الجار الذي يبلغ عن شخص ما، مستخفاً بكل علاقة وبكل وشيجة أو صلة رحم أو حقوق الجوار.
فمعظم المجتمع صار يشمت في بعضه بعضاً، وتتحول سلوكيات بسيطة إلى أعمال عنف كبيرة بين أبناء المجتمع، لتعبر عن حالة شيوع ظلم لبعضهم بعضاً، في بيئة لا تصنع إلا الظلم. 
وحينما يقول ابن خلدون إن الظلم مؤذن بخراب العمران، فإنه كان يقصد، ضمن ما يقصد، بذلك الخراب أن تدمَر شبكة العلاقات الاجتماعية، وتتمزق وتتشرذم قوى المجتمع، وتتنازع في مشهد مخيف ورهيب، وكأنه يؤهل الناس لحروب أهلية مقبلة، ماذا يمكن أن يخرج مجتمع ظلم من علاقات هذه صناعته، فتروج بين الناس روح التشفّي والانتقام، ويصير معنى الاختلاف إعلان حالة حربٍ بين طوائف وفرق متعددة في المجتمع، وكأنها تتدرب على اقتتال أهلي.
إنها صناعة المستبد الفاشي أن يمزّق الشعب إلى شيع وأحزاب، وإلى استقطاباتٍ لا تؤدي إلا إلى الخراب، غاية أمره أن يستقر شأنه وسلطانه، مهما بدل من أصول المجتمع، ومهما فرط في ذاكرته الجمعية، وتماسكه الواجب، فصار يهدم روح المجتمع والاجتماع، وأواصر تتعلق بالالتئام والائتلاف، ويصير كل أمر يتعلق بالاستقطاب قريباً، وكل أمر يتعلق بشأن التوافق بعيداً. إنها لعبة المستبد، حينما يتحرك بسياسات الظلم إلى تخريب الكيان والإنسان وسائر مجالات العمران، ولا بأس أن يدعي المستبد الفاشي أنه يبني ويعمر، ويحدث نهوضاً، لكنه في حقيقة الأمر يقيم صروح الفساد والخراب والاستبداد.
ويأتي من يأتي في ظل هذه النظم الاستبدادية، وخصوصاً ذلك النظام الانقلابي الفاشي، ليعبر عن ذلك من خلال حفنة من مسؤوليه، تكشف المستور وتفضح المخفي، وتعبر عن ذلك بتصريحاتٍ وكلماتٍ غير مسؤولة، تسهم في انقسامات المجتمع التي يصعب، بعد ذلك، مداواتها، أو التئام كثير من جروحها. انظر إلى هذا المسؤول الذي وأد حلم شاب، حينما كتب بعد اسمه، حين تفوقه في مسابقات عمل لالتحاقه في السلك القنصلي، ويدمغه أنه غير لائق اجتماعياً. هذا الذي يئد أحلام الشباب، ويحاول أن يدفن كل أمل في عملية حراكٍ مأمونةٍ، تقوم على قواعد من الجدارة والاستحقاق إلى قواعد مأفونة، يتحدث عنها هؤلاء، وكأنها عزبتهم أو الوسية التي يملكونها، يتصرفون في من عليها بمنطق واحد، منطق السادة والعبيد، ألا يصنع هذا ويزرع بذوراً للكراهية في المجتمع؟.
وها هو وزير للعدل السابق يستنكف على ابن البواب أن يدخل سلك القضاء، لأن هذا المقام الشريف يجب ألا يقربه الفقراء، والفقراء، في عرف هؤلاء، حقراء أو عبيد، مهما كان هذا الابن متفوقاً، واستحق أن يتوج وظيفياً بما يستحقه لتأهله وتفوقه، وتدور هذه النغمة المقيتة، لتفرق بين أبناء المجتمع الواحد، وتزرع سلوكيات الكراهية، وتؤسس لكل مسالك الثأر والانتقام.
وتأتي تلك التصريحات التي قام بها اللواء أبو بكر الجندي، ليتحدّث عن "الصعايدة" بأنهم سبب أزمة مصر والقاهرة والعاصمة، وأنهم من تسببوا في عشوائية غامرة، وينسى هذا وأمثاله أن
 كل تلك الأمور تجري تحت أعين الدولة ومؤسساتها، لا يهتمون بذلك يصنِعون الأزمات، وتتراكم الأزمات، فتصير كوارث اجتماعية خطيرة، ثم يتحدثون عن مسؤولية من لا مسؤولية عنده، ويتناسون أو يتغافلون عن المسؤول الحقيقي الذي يعربد فساداً ومحسوبيةً، ويطيح كل قواعد الإنسانية والعدالة، ويحرص على تخريب المجتمع على عينه، فيكون ذلك كله معامل كراهية وثأر وانتقام، ولا أحد يلتفت لهذا إلا بمزيدٍ من زراعة الكراهية بين أهل الوطن الواحد، حتى أن بعضهم تغنى بالفرقة والكراهية، وقال "إحنا شعب وانتم شعب"، ما بال هؤلاء يتلاعبون بالنار التي تحرق أصول المجتمع، ويقذفون كل ما من شأنه أن يمزق أواصره وشبكة علاقاته.
وبعد ذلك، تأتي نخبة رضعت الاستقطاب، وتنفست الانقسام، وجعلته طريقتها التي لا تعرف إلا لغة التنازع والتنابذ، فكل منهم يخرج من جعبة ذاكرته أسوأ ما يكون للآخر، حتى يصمه به، ويصير المجتمع بأسره، وبكل قواه، على شفير انتقام وثأر واقتتال. وبدت هذه النخبة التي اختلفت سياسياً لتبذر بذور كراهية واستقطاب هي الأخرى، تنزل بخلافاتها السياسية والأيديولوجية إلى عظام المجتمع ومفاصله، ويؤدي ذلك إلى هدم أواصره وعلائقه.. ماذا يعني ذلك؟، قلت إنها النخبة المحنطة، لكنها بفعلها ذلك، انقلبت إلى نخبة منحطة، إن استحقت وصف النخبة بعد كل ما فعلت.
هكذا آل الأمر إلى صناعة ظلم وفرقة، وما يترتب عليهما من خراب، وإلى زراعة وبذر بذور الفرقة وكراهية واحتراب. وبعد ذلك، لا بد أن تكون هناك فطنة مجتمع، وحنكة نخبة وقدرة أطراف وقوى تؤسس لاتفاق وتوافق، حتى تواجه المستبد صانع الظلم وزارع الكراهية القاصد بكل هذا خراب الوطن، لأن المجتمع في كيانه ومستقبله صار مهدّداً بفعل المستبد الفاشي.. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.

دلالات

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".