على مسرح التاريخ

على مسرح التاريخ

01 أكتوبر 2017
+ الخط -
يضرب المرء أخماسًا بأسداس للتحولات التي تستحوذ على بعضهم، فتصيبه في مقتل، وحتى لا يظن القارئ أن اليأس قد تسرَّب إلى نفوسنا؛ فإنني أردّد مع تشيخوف قوله: "لا أكتب عن الأشياء المحزنة لكي تبكوا عليها؛ وإنما لتغيِّروها". المصلحة القاصرة التي تدفع المرء إلى مداهنة الباب العالي، هي نفسها التي ستُجهِز عليه، عندما يحاكمه التاريخ. ربما يكسب الفرد منصبًا أو جاهًا إزاء التطبيل للسلطة، لكن بما ينفعه منصبه أو جاهه، وقد خسر نفسه التي بين جنبيه؟ مغبونٌ من يتصور أن نفاق السلطة سبيل لاكتساب احترام الناس؛ فهي لا تزيد عن "كعب أخيل" الذي يقضي على هؤلاء من دون هوادة.
إن كان الجنرال الأميركي، بنديكت أرنولد، قد حارب في صف البريطانيين ضد أميركا خلال الحرب الثورية؛ فقد رأينا اليوم من يُطِل من بيننا، ويستميت في تنفيذ مخططات معادية لبني جلدته.. ألم يبلغه أنّ الأميركيين قد نعتوا بنديكت بالخائن الحقير؟ أم أنه لم يقرأ تاريخ أبي رغال ليتجنب أن يكون خليفته في العالم العربي اليوم؟ ندرك تمامًا أنّنا لسنا في رحاب مدينة أفلاطون الفاضلة، لكن هذا لا يعفينا من أن نصدع بالحق أو على الأقل نلزم الصمت، لأننا شئنا أم أبينا سنقف على مسرح التاريخ بعد أن نتجرّد من سلطتنا، والتاريخ لا يرحم. في طوق السلطة أن تحتفظ بأبواقها فترة إلا أنها لا تدوم للأبد؛ فلقد قبض شاوشيسكو على رومانيا بقبضةٍ من حديد، ودانت له البلاد 42 خريفًا، ثم حوكم أمام شعبه في أسرع محاكمة عرفها العالم، واقتاده الشعب لمصيره المحتوم.
سقطت إمبراطورية نابليون بونابرت في واترلو، واليوم سقطت رموز عربية كثيرة لم تصمت عن الحق وفقط؛ بل وصفقت بحرارةٍ للباطل. وإن طاردت "ووترغيت" ريتشارد نيكسون، وأجبرته على الاستقالة؛ فإن الحصار الغاشم على دولة قطر سيظل أبد الدهر وصمة عار في جبين كثيرين. يمتلك المسرح رهبةً لا تتوفر للسينما؛ فهو يعتمد على الحضور القوي والمكاشفة الصريحة، ويكون الواقفون على خشبة المسرح أكثر التصاقًا بالجماهير؛ فلا مجال لخديعة الجمهور. وينطبق الأمر نفسه على مسرح التاريخ، حيث تسقط الأقنعة وتقف الشخصية تتفحصها العقول قبل الأعين، ويدرك الناس من جاد بنفسه لأجل قضيةٍ ممن بكى بكاء التماسيح، ليقتنص مركزًا أو يستقطب وجاهة.
ولعلَّ ما يجدر ذكره هنا ما دار بعد نكبة 4 فبراير/ شباط 1942 حيث رفع الوفديون، مايلز لامبسون، على الأعناق وهتفوا بحياته بعدما قادهم إلى الحكم. وخرج مصطفى النحاس باشا على الشعب مبرّرًا هذه السقطة التاريخية زاعمًا أنه قد أنقذ البلاد من الفتنة؛ إلا أن هذه المزاعم الساذجة لم يقبلها الشعب، وطبع مكرم عبيد "الكتاب الأسود" الذي وثق فيه الصفقات التي عقدها الوفد مع الإنجليز واحتال الوفديون بها ليمسكوا بزمام الوزارة. وفي خطوة تالية، اجتمع النحاس بممثلي الأحزاب قبل إجراء انتخابات مجلس النواب، وأملى عليهم شروطه لقبول دخولهم المجلس ومن بينها؛ عدم تناول حادث 4 فبراير مطلقًا، وعدم مهاجمة الإنجليز، فضلًا عن مهاجمة السيدة حرمه؛ فانفجر أحمد باشا عبد الغفار قائلًا: ماذا نقول لمرشح الوفد بعد ذلك؟! نقول له "وشي أحلى من وشك" أم نقول له "أبويا أحسن من أبوك"؟!
سياسة "أنا ومن بعدي الطوفان" هي التي أفسدت حالنا، هذه السياسة التي دفعت الملك الصالح إسماعيل إلى التحالف مع الصليبيين، وتسليمهم بعضًا من حصونه؛ ليتقوى بهم على قتال ابن أخيه الصالح أيوب. والسؤال: متى يفيق النائمون؟ ومتى ينتبه هؤلاء إلى أنهم أطلقوا سهمهم نحو صدرهم، وأضرموا النيران في بيوت أهليهم؟
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)