أسطورة النهايات

أسطورة النهايات

28 سبتمبر 2017

(Getty)

+ الخط -
يكتشف مُتابع صفحات الرأي في منابر عربية كثيرة، وفي جوانب مما تتداوله مدوَّنات التواصل الاجتماعي، عودة مكثَّفة لخطاب النهايات، يقرأ مقالاتٍ متعدِّدة عن نهاية المشروع القومي العربي، ونهاية اليسار العربي والعالمي، ثم نهاية الوطن والوطنية. كما يقرأ عن نهاية الهيمنة الأميركية ونهاية القضية الفلسطينية، نهاية جامعة الدول العربية ومجالس التعاون الإقليمية، بل إن بعضهم لا يتردد في الحديث أيضاً عن نهاية "داعش" و"القاعدة" بل ونهاية الإرهاب، وكذلك نهاية الثورة السورية .. إلخ. ويبلغ الخطاب مداه، فيتحدث مؤدلجو النهايات عن نهاية زمن الإيديولوجيا، ونهاية التاريخ.
لا يجد الذين يتغنَّوْن بخطاب النهايات أي حرج في تركيب جملةٍ من معطياتٍ تشير إلى علامات النهاية التي تُرْفَع لازمة مُؤَكَّدَة في دعاويهم. وهم يعزّزون مواقفهم بانتقاء جملةٍ من المؤشرات المنسجمة، مع ما يقرّرونه في صيغة أحكام عامة لا تقبل المنازعة.
يتسم خطاب النهايات بالنزعة الإطلاقية، إنه، في الأغلب الأعم، تعبير عن موقف سياسي أكثر منه ملاحظة مبنية على معطيات ووقائع مضبوطة. ويبدو أن أصحابه لا يعيرون أدنى انتباه للشروط والسياقات التاريخية المؤطِّرة لأحكامهم، ولا يعملون على تنسيب مواقفهم. فقد انتهى اليسار في تصوُّرهم، لأنه أصبح من دون مرجعية فكرية واضحة، وذلك أمام الانفجار الذي عرفته الاقتصادات الليبرالية الجديدة، في عالمٍ تحكمه أخلاق السوق وقيم التنافس والاستهلاك. ولم يتمكَّن معتنقو الفكر اليساري من فهم التحوُّلات الجارية في عالمنا، فأصابهم الذهول.

عندما نُتابع قراءة ما يُكتب عن نهاية القضية الفلسطينية، نجد أن القائلين بهذه النهاية يتحدثون عن التراجعات الحاصلة في حركة التحرُّر العربية، كما يتحدثون عن الدور الذي مارسته وتمارسه الخلافات الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، في عملية الانكفاء الحاصلة في المشهد السياسي الفلسطيني، وهم يبرزون كيف ساهمت موجة التحوُّل التي سادت المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة في تقليص حدود التضامن العربي الدنيا، وهي الحدود التي كانت سائدة قبل زمن الربيع العربي.
والغريب في هذا الباب أن هناك من يتحدث أيضاً، بجوار ما سبق، عن نهاية إسرائيل والمشروع السياسي الصهيوني، وهو ما ينتج عنه في هذه الخطابات نهاية طرفي معادلة الصراع المتواصل في فلسطين! ومبرّرات من يقول هذا الكلام تتمثل في تراجُع الكيان الصهيوني عن التأثير في مراكز القرار في الولايات المتحدة الأميركية، وتزايُد حركة التمييز العنصري داخل الأرض المحتلة.. ولا ينتبه من يصدر هذه الأحكام إلى أنماط الحضور التي تمارسها إسرائيل اليوم في أفريقيا وفي العالم العربي وفي العالم.
لا يعير الذين يُنَظِّرون للنهايات أدنى اهتمام لمعطيات الواقع والتاريخ الفعلية، وهي في أغلبها معطيات متحوِّلة ومتناقضة، تواكبُها تحوُّلاتٌ مفاجئة وصانعة لوقائع يصعب التنبؤ بها، وبما ستصنع من أفعال وتولِّد من تناقضات لاحقاً، الأمر الذي يجعلنا أمام إشكالاتٍ ومواقف يصعب إدراجُها في باب النهايات، إلا عندما يتعلق الأمر كما بَيَنَّا بمواقف قبلية جاهزة، أو بجملة من الخيارات الإيديولوجية التي لا تتردد في إغماض عيونها على المخاضات والتفاعلات الجارية في قلب ما تعلن نِهَايَتَه.
عندما نتساءل: ماذا يُقابِل النهايات في الخطابات المذكورة؟ أو ما هي البدائل التي يرى 
المنتصرون لخطاب النهايات أنها ستحل محل التيارات والمؤسسات والخيارات التي يعلنون بلغة التقرير الجازم نهايتها؟ نكتشف أنهم يتحدثون عن بداياتٍ يفترضون أنها البدائل المرتقبة، من قَبِيل إقرارهم ببداية زمن البراغماتية وأخواتها، من قَبِيل النزعة الشعبوية التي انتعشت، أخيرا، محاولة إبراز أدوارها في مخاطبة المجتمع، وقدرة قادتها على استدراج الجماهير باستعمالهم اللغة المبسَّطة، إلا أن هذا الموقف لا يُلْغِي الخطابات التي أصبحت تُوسَمُ بنهايتها.
لا يميِّز المنتصرون للنهايات بين التراجعات المرحلية، أو المخاضات التي تعرفها بعض التيارات الإيديولوجية أو بعض المؤسسات، في بعض أطوار التاريخ المتحوِّلة بصورة مؤقتة وعابرة، وبين رغباتهم وأمانيهم. وإذا كان مؤكدا أن الولايات المتحدة، بعد صعود رئيسها الجديد، قد كشفت عن مواقف متناقضة في مواقفها وخياراتها السياسية، في كثير من بؤر الصراع المشتعلة في العالم، فإننا نفترض أنه لا يترتَّب عن التحوُّلات المعلنة في بعض سياساتها أن نقول إن سطوتها انتهت، بل ينبغي قياس درجة التحوُّلات الجارية، في علاقاتها المركبة، بنوعية حضورها المتواصل في المجال الدولي وبرامجه واستراتيجياته.
تحتفي النزعات الشعبوية من قَبِيل تيارات الإسلام السياسي، التي يُنظَر إليها اليوم، في عالمنا العربي بديلا لليسار وللتيارات الليبرالية، توصف بأنها تَرِدُ نوعا من الدفاع عن الخصوصيات الثقافية، والهُوية وميثولوجيا الأصل، وهي مواقف تتوخّى، في النهاية، رفض وَاحِدِيَّة التاريخ والمصير الإنساني، من دون أن ينتبه المناصرون للتعدُّد الهوياتي إلى أهمية الانصهار والاندماج في صناعة وحدة المصير المشترك. ونحن نتصوَّر أن التعدُّد والتنوُّع في التاريخ لا يستبعدان مسألة التفكير فيه، وفي المصير الإنساني المشترك.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".