مأزق المثقف الخليجي

مأزق المثقف الخليجي

15 سبتمبر 2017
+ الخط -
من بين ما كشفته الأزمة الخليجية ازدواجية المثقف الخليجي في التعاطي معها. والأمر يتجاوز مجرد الخلاف حول توصيف ما يحدث، ومن المسؤول عنه، إلى ما يتعلق بحقيقة التزام هذا المثقف بالحد الأدنى من المصداقية والاتساق مع الذات. فعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية، وقع مثقفون خليجيون كثيرون في مأزق الاصطفاف السياسي الأعمى خلف محور الحصار، وانجرفوا باتجاه تأييده، على الرغم من يقينهم بأن الأزمة مفتعلة، وتستهدف ما هو أبعد مما تم الإعلان عنه.
ليست المشكلة في أن يتبنى مثقف ما موقفاً سياسياً من أحد أطراف الأزمة، فالاختلاف من طبيعة الأشياء، لكن المشكلة في الانسياق وراء الادّعاءات غير المبرّرة، والانسلاخ من أي تفكير عقلاني رصين، ولن أقول أخلاقي، فالأخلاق باتت نسبيةً في منطقتنا. كان بعض هؤلاء المثقفين من المترددين على الدوحة سنوات، وضيفاً دائماً على منابرها الإعلامية، ومشاركاً نشطاً في فعالياتها البحثية والأكاديمية، بل وأحياناً من الداعمين لمواقفها، ولكنه انقلب فجأة، وبدأ في ترويج أطروحات مناقضة تماماً لما كان يقوله سابقاً. وهو يفعل ذلك، ويريد من الجمهور أن يصدّقه، ويأخذ كلامه علي محمل الجدية. وذلك مثلما فعل أخيراً أكاديمي سعودي معروف، كان دائم الحضور والمشاركة في مؤتمرات بحثية عديدة في مراكز الأبحاث في الدوحة، يتهم قطر الآن بأنها تلعب "دوراً تخريبياً في المنطقة". هكذا مرة واحدة من دون أي تحرٍّ للدقة، أو التزام بأمانة التحليل، وتقديم معلومات تدعم ادعاءه. أدرك جيداً حجم الضغوط التي يقع تحتها المثقف الخليجي، خصوصاً السعودي والإماراتي، والتي قد تصل إلى حد الاعتقال والسجن، كما حدث أخيرا مع باحثين وأكاديميين سعوديين، أو ما حدث قبلها مع أكاديمي إماراتي يردّد الإعلام دوماً، من دون دليل، أنه يعمل مستشاراً لولي عهد أبوظبي، حين تم احتجازه نحو عشرة أيام لا يُعرف عنه شيء، وتم منعه من السفر بسبب تغريداتٍ ناقدةٍ لموقف بلاده من دعم النظام المصري، فعاد ليغرّد داعماً ومؤيداً ومشيداً بحكمة ولي عهد "إسبرطة".
يذكّرنا موقف هؤلاء المثقفين الخليجيين، من أكاديميين وفنانين وأدباء، بمواقف أقرانهم من المثقفين والفنانين المصريين، عشية انقلاب الثالث من يوليو/ تموز، والذين اصطفّوا مع الانقلاب، وقادوا حملة شرسة على كل من يعارضه، وأبدعوا في تبرير مواقفهم المشينة، مرة تحت ادعاءات الوطنية، وأخرى باسم "هيبة الدولة"... إلخ. وسواء كان ذلك عن قناعةٍ أو خوف، فإن ما يسجله التاريخ، في النهاية، هذه المواقف التي ستظل نقطة سوداء في سجلّهم السياسي.
ليس الغرض هنا الدفاع عن قطر، بقدر ما هو كشف لهذه الازدواجية المتهافتة التي باتت جزءاً أصيلاً في تركيبة المثقفين العرب، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، والذين انقلبوا إلى مدافعين أشاوس عن الاستبداد والسلطوية، بعدما صدّعوا رؤوسنا بالحداثة والديمقراطية والحرية، ثم عندما رأوا "ذهب المعز وسيفه" انقلبوا واصطفوا في صفوف المستبدين.
ورطة هؤلاء كبيرة، فهم من جهة فقدوا مصداقيتهم ونزاهتهم، بسبب تقلّب مواقفهم من دون تبرير. ومن جهة ثانية، حشروا أنفسهم في خندق السلطة، وبالتالي خرجوا من عباءة الحياد والاستقلال الفكري، وبالتالي لا يمكن التعويل على آرائهم وتحليلاتهم. وسوف تزداد الورطة إذا ما حدثت انفراجة أو نهاية للأزمة الحالية، وهو وإن كان أمراً غير متوقع في المدى المنظور، إلا أنه يظل احتمالاً قائماً.
وقع المثقف الخليجي إذاً في فخ الاستقطابات السياسية والقبلية، بعدما كان يحذّر الآخرين منها، كما هي الحال مع مثقفنا السعودي الذي كان يدّعي الحكمة، ويطالب بتحكيم العقل في أزمات المنطقة، فأصبح هو نفسه مدافعاً عن هذه الاستقطابات ومؤجّجاً لها.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".