هل يخرج الصدر من المنطقة الرمادية؟

هل يخرج الصدر من المنطقة الرمادية؟

05 اغسطس 2017

الصدر لم ينجح في بلورة اتجاه وطني متماسك (24/3/2017/الأناضول)

+ الخط -
يمثل مقتدى الصدر حيثية مهمة ضمن الجسم الشيعي السياسي في العراق. وتكمن أهميته في نزعته الاستقلالية، وفي جمعه بين الوطنية العراقية والانفتاح على العروبة، وفي كتلته النيابية التي تضم 34 نائباً. هذا على الرغم من أنه لم ينجح بعد في بلورة اتجاه وطني متماسك عابر للطوائف، وذلك تحت ضغط التيارات الشيعية الكبيرة التي تستكثر عليه عدم التحاقه بطهران، وعدم اتخاذه من ولاية الفقيه مرجعيةً دينيةً سياسيةً له ولتياره، وبما يجعل من المرجعية الإيرانية مصدراً للسلطات في العراق. وإلى جانب رمز الاعتدال، آية الله السيستاني، يمثل الصدر حالة شيعية منفتحة على بقية المكونات، بينما يكتفي عمار الحكيم، مثلاً، بالانفتاح اللفظي والليونة في الخطاب الإعلامي، مع الارتباط الفعلي بطهران، والتمسّك بأجندتها في العراق وفي المنطقة، واعتماد منهج التغليب الطائفي رائداً لسياسته في الداخل العراقي، مع حق بقية المكونات الوطنية والاجتماعية أن تجد لها مكاناً على الهامش السياسي!.
على أن مشكلة الصدر تبقى في ضعف خبرته السياسية، وفي جنوحه إلى التجريب، والإخفاق في إنشاء مؤسسة حزبية متماسكة ذات فعالية، وإلى درجة استخفافه بعالم السياسة، والمراوحة بينها وبين العمل المليشياوي (قيادته مليشيا "سرايا السلام")، والاعتزال، والانقطاع إلى "العلم". وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، تعرّض لضغوط من حزب الله في لبنان، لكي ينتظم في البيت الشيعي السياسي بدون أي اعتراض، ولكي يلتزم بدون أي لبس بأجندة دولة أجنبية هي إيران.. وقد أبدى صموداً "سلبياً" أمام هذه الضغوط، إذ اعتصم في منطقة رمادية، ما أثار حيرة أطرافٍ عديدة، حول موقع الرجل ورؤاه إزاء الحاضر والمستقبل.
وأن يزور الصدر دولة خليجية، كما فعل أخيراً بزيارة جدة، فلا شك أن الأمر لم يخلُ من
 جرأة. إذ تمت الزيارة، كما يتضح من أجوائها ونتائجها، بغير شروط، وبدا الرجل على استعداد للتواصل مع منطقة الخليج والعالم العربي، وبما يتعدى الاعتبارات الشكلية التي يتمسّك ويكتفي بها رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي عقّب على زيارة الصدر بقوله "العراق بلد ديمقراطي، ويمكن أن تحدث فيه مثل هذه الأمور"، والمقصود أنه حتى زيارة بلد كالسعودية ممكنة!.
وفي النتائج المعلنة، لوحظ أن التوافقات تتعدّى العلاقة مع التيار الصدري إلى العلاقة بين البلدين، مثل تقديم عشرة ملايين دولار (إضافية) لمساعدة النازحين من خلال الحكومة العراقية. وافتتاح قنصلية عامة في النجف، وتعيين سفير سعودي جديد (محل ثامر السبهان الذي احتجت عليهه المليشيات وهدّدته)، وسرعة إنشاء خط جوي بين البلدين، وتعزيز الاستثمار السعودي في العراق. وهي توجهات جيدة، وإن كانت تنقصها التزاماتٌ عراقيةٌ مقابلة بعروبة منطقة الخليج، وباحترام منظومة مجلس التعاون الخليجي وتوجهاتها.. يضاف إلى ذلك في الأهمية الاتفاق على "تبني خطاب ديني وإعلامي معتدل يدعو إلى التعايش السلمي والتعاون والمصالح المشتركة بين البلدين والشعبين". فالعلاقات بين بغداد وعواصم الخليج تحتاج بالفعل إلى خطاب معتدل ومتبادل، وأن تنأى بغداد عن اعتماد الأجندة الإيرانية في سياستها تجاه دول المنطقة، وبحيث تنهض العلاقات بين دول مستقلة تتمتع بالسيادة، وتراعي المصالح الوطنية العراقية، والمصالح المشتركة مع الأشقاء الخليجيين والعرب، وتحتكم إلى ميثاق جامعة الدول العربية وقراراتها.
وقد لوحظ أن زيارة الصدر تمت في أجواء اضطرابات شهدتها مدينة العوامية السعودية ضمن منطقة القطيف في شرق المملكة. ومع الأمل بأن يتم استيعاب هذه المشكلة من دون إلحاق أضرار بالسكان وبممتلكاتهم، أو بحقوقهم كمواطنين، وبإعمال حكم القانون، ومن دون أن تنشأ مشكلة طائفية تلتحق فيها زعاماتٌ محليةٌ بمصدر خارجي للتوجيه والإلهام، وتنزع فيه هذه الزعامات إلى العنف.. مع هذا الأمل، لوحظ أن تصريحات الزائر ووفده ابتعدت عن الخوض في هذه المسألة، وهو أمر جيد. وإن كان من المثير للاهتمام ما صرّح به أحد أعضاء الوفد الزائر إن المسؤولين السعوديين اعترفوا، على حد تعبيره، بأخطاء الإدارات السابقة، وهو تصريح تنقصه اللياقة الدبلوماسية في أضعف الأحوال، ويكشف عن ضعف الخبرة السياسية للتيار الصدري.
ويذكر هنا أن زيارة الصدر أتت في سياق زياراتٍ قام بها مسؤولون عراقيون خلال العام 
الجاري (2017) إلى السعودية، من بينهم رئيس الحكومة العبادي ووزير الداخلية قاسم الأعرجي. وأياً كانت النتائج المعلنة لهذه الزيارات، فإن الأكثر أهمية أن تحيي بغداد علاقاتها الخارجية والعربية، وأن تعيد الاعتبار للروابط القومية، وأن تبرهن على اعتمادها سياسةً مستقلةً، لا يتم فيها الترحيب بتدخلات دولةٍ إقليمية هي إيران، ولا يتم فيها رعاية المليشيات المسلحة، بدعوى الارتباط الشكلي بين هذه المليشيات والقوات المسلحة العراقية، وأن يُصار إلى إرساء دولة المواطنة، لا دولة التغليب الطائفي، ووقف الخلط المتمادي والمتعمد بين الأدوار الدينية والسياسية لرجال الدين ولدور العبادة (وهو ما ينطبق بصورةٍ أو بغيرها على دول أخرى، منها السعودية نفسها)، وذلك من أجل الاقتراب من نموذج الدولة المدنية التي كانت سائدةً في بلاد الرافدين منذ نحو ستة عقود، قبل حلول الديكتاتوريات على أنواعها، اليسارية منها والقومية و"الدينية" التي ألحقت، وما زالت تلحق، الخراب بهذا البلد العربي الذي كان من منارات الشرق، وقد أصبح في وضعه الحالي يعِزّ على الوصف.. ومن الشواهد الجديدة على ذلك أن عمّار الحكيم انشقّ على نفسه، وأسس ما أسماه "بيت الحكمة" (في استلهام لفظي لتجربة الخليفة المأمون)، بعد خروجه من "المجلس الأعلى" الذي أنشأه والده الراحل عبد العزيز الحكيم.. فاستبدل يافطة "المجلس الأعلى" بيافطة "بيت الحكمة" على قصورٍ ومقرّات في منطقة العواجية في بغداد، كان يمتلكها الرئيس الأسبق صدام حسين. وبهذا، فإن هذه الممتلكات لم تؤل إلى الشعب العراقي، وإلى حكومة منتخبة، بل إلى سياسيين جدد اقتحموا عالم السياسة للاستثمار فيه، فوضعوا أيديهم جهاراً نهاراً على ممتلكات الشعب.
احتج رئيس "البيت الشيعي"، عمّار الحكيم، على زيارة الصدر جدّة، ووضع شروطاً لأي زيارةٍ يقوم بها إلى السعودية، ... وهي مسألةٌ تحتاج بحثاً مستقلاً.