الترحم على "المشركين"

الترحم على "المشركين"

14 اغسطس 2017

عبد الحسين عبد الرضا.. تاريخ في الفن الفكاهي الخليجي

+ الخط -
هناك شيء معطوب في المجتمعات العربية. تتوالى وقائع وأحداث تؤكد هذا العطب، في عمق المجتمعات، وليس على سطحها وأطرافها. التخريب في بنية هذه المجتمعات الذي مارسته الأنظمة المستعدّة للرقص على مئة دفٍّ سياسي، من أجل بقائها الصرف على صدور الناس، والقوى الدينية التي قسمت المجتمعات إلى مؤمن وكافر، رجس وطاهر، أعطى أكله المُرّ في غير مجتمع عربي. وهذه هي النتائج الكارثية، نلمسها في بلدان الحروب العربية المعلنة بالدم والنار، وتلك التي لا يزال الدم والنار كامنيْن فيها تحت الرماد. أي بلد عربي تمكَّن من تفادي هذا العطب؟ لا أرى واحداً. صار للسلطة في العالم العربي شكل واحد. ولمعارضاتها شكل واحد. استبداد عسكري، نخبٌ فاسدة، إقطاعيات سياسية من جهة، ومتأسلمون، بأقنعة مختلفة وجوهر واحد، يفرضون أنفسهم وكلاء الله على الأرض. لا شيء في الوسط يتخلل هذا الاستقطاب الحاد. أي حالةٍ هذه؟ لا أظن أننا عرفناها في تاريخنا الحديث، حتى في أيام الاستعمار الأجنبي المباشر.
لا نحتاج دلائل وبراهين على ما صرنا إليه، تكفي مشاهدة نشرة أخبار واحدة لنعرف حجم التمزيق والخراب العربيين، ليس في البنى التحتية وأمواج النزوح والتهجير فقط، ولكن في النفوس التي تُحقن بمواد سامة. يموت فنان أردني مسيحي شاب، فيترحم عليه جمهوره الصغير، فتخرج أصوات دينية، من داخل هذا العطب، لتقول إنه لا يجوز الترحم على مسيحي! كأنَّ الله هو إله المسلمين وحدهم، فلا إله أو رحمة لمن ليسوا من ملّتهم، أو لنقل، بدقةٍ أكثر، إله هؤلاء المسلمين الذين صاروا حرّاس النص الديني وممثليه الشرعيين على هذه الأرض الشقية. يحدث هذا في مجتمعٍ نظن أنه من أكثر المجتمعات العربية بعداً عن التعصّب والتخريب الممنهج. ولكن كلا، التخريب موجود، يتعلمه الطفل في الشارع والحارة وعلى مقاعد الدرس، ويمكن لهذا المجتمع، أن ينقسم إلى ما هو غير ديني، إنْ تحركت الجمار تحت الرماد: أردني وفلسطيني. صرخة واحدة في هذا الشارع أو ذاك، في هذه الجامعة أو تلك وتهبّ النيران.
تتوالى الحوداث التي تعكس حجم الخراب الذي أصاب فطرة الناس وحسَّهم الطبيعي بالتضامن والتراحم والترفّع عن الصغائر في الأحزان والملمات. خذوا آخر مثال. يتوفى الممثل الكويتي الكبير عبد الحسين عبد الرضا، الذي صار لاسمه، في السنين الأخيرة، جهة يُحال عليها من دون حاجة إلى التنبيش في بطاقة هويته. يكفي اسمه ليكون وصمةً عند من يملك الوصفة الجاهزة للنجاة من النار والحقّ في الرحمة، فتخرج أصوات دعاة الباطل وفقهاء الظلام، لتقول لجمهور ترحم على فنانٍ محبوبٍ ملأ حياتهم بهجة ومرحاً: "لا يجوز للمسلم الدعاء لعبد الحسين عبد الرضا؛ لكونه رافضياً إيرانياً مات على الضلالة، وقد نهى الله المسلمين أن يدعوا بالرحمة والمغفرة للمشركين". المشركون دفعة واحدة! يبدو أن هؤلاء لم يغادروا أيام قريش. كأننا لا نزال في زمن "المشركين" وعبادة الأصنام. ثم إن المشركين تعني، لو فهم الفاهمون، هم من يشركون بالله، وليس من ينتمون إلى تفسير مختلف للنصوص والتواريخ الإسلامية. يتحوَّل عبد الحسين عبد الرضا، ذو الشخصية الفنية الكارزمية، المليئة بالحيوية، المتفجّرة بالضحك (مستحيل أيامنا الكالحة هذه) إلى "مشرك"، لا تجوز عليه الرحمة. هذه الأفكار المُدمّرة هي التي أودت بالعرب، مع الطغيان، إلى أسفل سافلين، وجعلتهم في ذيل قائمة الأمم، على الرغم مما يملكون من أسباب النهوض والتقدّم. ماذا يختلف هذا الكلام عن بلطة "داعش"، وقفصها الحديدي الذي تلتهم فيه النيران سجينا، لا حول له ولا قوة أمام شاشة كاميرا هوليودية. آلة الغرب الكافر توثّق عقاب "خليفة" المسلمين! فأي سوريالية هذه؟
لا أعرف الكثير عن أعمال عبد الرضا الفنية. أعرف أنه صنع تاريخاً في الفن الفكاهي الخليجي والعربي. رأيت له مشاهد وحلقات، ونتفاً من مسرحيات جعلتني أقف أمام فنان فذّ على الخشبة وأمام الكاميرا. ولولا أنه ولد في بلد صغير ومجتمع محلي، لم يمكّنا من جعله "بان آرب"، لرأينا فناناً لا يقل، في حجم موهبته وطاقته المذهلة، عن عادل إمام ودريد لحام (على سبيل المثال).
معركة عرب اليوم صعبة جداً. فهي مزدوجة. ضد الطغم الحاكمة، أياً كان وجهها، والأسلمة المتطرّفة، المتعصبة، التي تعيدنا من أزمنة الحداثة والعولمة والاقتصادات عابرة الحدود إلى زمن الكفار.

دلالات

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن