الصحافة الأميركية والأزمة الخليجية

الصحافة الأميركية والأزمة الخليجية

11 اغسطس 2017
+ الخط -
مع إعلان الحصار البري والجوي والبحري على دولة قطر في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، لم يأخذ الموضوع حيزاً كبيراً في الإعلام الأميركي في البداية، أولاً بسبب محدودية الأزمة في الخليج العربي، وقناعة المحرّرين في الصحف الأميركية بأنه لا تأثير مباشراً لهذه الأزمة على العلاقة مع الولايات المتحدة، فقد كان خبر التقارير عن هذه الأزمة يتم اقتطاعه وتحريره من وكالات الأنباء العالمية. ثانياً بسبب "افتعال" الأزمة نفسها، بمعنى أن الأزمة لم تنتج بسبب أفعال قامت بها قطر، أو مواقف سياسية مفاجئة قامت بها، ما استلزم اتخاذ مواقف سياسية، وإجراءات سياسية بهذه الحدّة، لم يكن لها مثيل في المنطقة، ففي كل النزاعات التي تجري حول العالم هناك شيء اسمه التدرّج في العقوبات، أو في المواقف السياسية المعادية. لكن لا يمكن أن تصحو، بين يوم وليلة، كي تعاقب دولة جارة و"شقيقة" وعضواً في مجلس التعاون الخليجي، والأهم من ذلك كله أنها شريك في حلف عسكري، وليس سياسياً فحسب، في الحرب ضد اليمن التي تواجه الآن مشكلاتٍ لا حدود لها. ولم تقدّم قطر تمويلاً مالياً للحملة فحسب، وإنما قدمت جنوداً على محدودية حجم جيشها وصغره، فلا يمكن أن تترك ذلك كله وترميه بين ليلة وضحاها، وتنتقل في صباح اليوم التالي، وتعتبر قطر عدواً يجب فرض الحصار البحري والبري والجوي عليه. والأهم من ذلك التعامل بعدائية كاملة مع مواطني هذه الدولة، بطردهم من كل دول الحصار، حتى ولو كانوا حجّاجاً أو معتمرين، أو حتى ولو كانوا يرتبطون بصلة قرابة ومصاهرة.
ولذلك، بدت المواقف المفروضة على قطر أشبه بعقوبات "كافكاوية"، كما علقت "نيويورك 
تايمز"، إذ لا يمكن تفهمها ولا يمكن تقبلها، إذ هي تخلو من الحد الأدنى من العقلانية السياسية، وتكشف عن حجم كبير من المراهقة السياسية دفع معلقين سياسيين أميركيين كثيرين إلى الاستخفاف بالقيادات السياسية في المنطقة العربية، للأسف عبر وصفهم بأنهم "أولاد يلعبون بأموال كثيرة".
ولذلك، لم تأخذ الصحافة الأميركية هذه الأزمة بجدية كافية لقناعةٍ ربما أنها لن تستمر طويلاً بسبب افتعالها وبنائها على "لاشيء". لكن، مع بدء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استخدام "تويتر" ووقوفه بشكل أعمى إلى جانب السعودية والإمارات والبحرين في موقفها ضد قطر، وتكرار الاتهامات التحريضية ضد قطر، من دون تدقيق أو إدراك حساسية موقعه، وحساسية موقع قطر في التحالف الدولي ضد "داعش" وأهمية القاعدة العسكرية "العديد" في هذا التحالف، مع بدء ذلك، بدأ الإعلام الأميركي يفرد مساحة أكبر للأزمة، وانتقاد ترامب بحدّة بسبب مواقفه تلك.
ورأت "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" في ذلك مناسبةً لإظهار مدى خفّة ترامب في التعامل مع السياسة الخارجية، وخطورة ذلك في نظرة العالم إلى السياسة الأميركية، بوصفها تقوم على الافتعال والمصالح الشخصية الضيقة، بدل أن تقوم بها مؤسساتٌ تنظر إلى مصالح الولايات المتحدة بمنظورها الأوسع.
ثم أتى الشقاق بين وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، في موقفه الداعم قطر ورئيسه ترامب الذي توقف عن الكتابة على "تويتر" تحت ضغوط عدم تصعيد الأزمة، ليفتح مجالاً أكبر للصحافة الأميركية في انتقاد الرئيس ترامب على مواقفه، فقد كتبت "واشنطن بوست" في افتتاحية لها في السادس من يونيو/ حزيران "كانت العربية السعودية، وغيرها من الدول السنيّة الاستبدادية، على خلافٍ على مدى سنوات مع إمارة قطر الغنية بالطاقة، والتي تستضيف أكبر قاعدة جوية أميركية في الشرق الأوسط. انفجار تلك التوترات على شكل أزمة دبلوماسية يهدّد المصالح الأميركية الحيوية في تلك المنطقة، بما في ذلك الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لذلك، من المذهل، والمستغرب أن الرئيس ترامب يفضل طرفاً على آخر في هذا النزاع". وتضيف الصحيفة أن الخلاف داخل مجلس الأمن القومي للرئيس ترامب يكشف الكثير عن هشاشة البيت الأبيض، وسذاجته في التعامل مع أول أزمة دبلوماسية من هذا النوع. فقد قال ترامب "المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية التي فرضتها السعودية والبحرين والإمارات ومصر كانت نتيجة زيارته أخيراً إلى السعودية، ولقائه مع ملك السعودية، من دون أن يدرك خطر مواقفه تلك على الأمن القومي الأميركي". وتضيف الصحيفة "تدخل ترامب عقّد موقف الولايات المتحدة ضد دولةٍ تستضيف حالياً ما لا يقل عن 10 آلاف من الأفراد العسكريين الأميركيين في قاعدةٍ تتوجه منها معظم العمليات ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهو موقف كان مطلوباً، بعد أن أمرت المملكة العربية السعودية القوات الأميركية بمغادرة أراضيها، في دعم السعوديين، كما قدّم الرئيس دعماً غير مشروط لبلد عزّز انتشار التطرف الإسلامي في جميع أنحاء العالم، وقدم مجندين عديدين لتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، ناهيك عن معظم خاطفي "11 سبتمبر". لقد خلط ترامب بين مواقفه الشخصية وما يجب أن تكون عليه مواقف الولايات المتحدة في عداء شرق أوسطي، يجب عليه أن يحاول نزع فتيله، وهو ما يحاول المهنيون في وزارة الخارجية والبنتاغون القيام به، قبل أن يقفز رئيسهم ويوتر الأجواء".
ربما لم تتوقع قطر أن تحصل على هذا التأييد المجاني من وسائل الإعلام الأميركية. لكن
بمجرد ظهور المطالب الـ 13 والمطالبة بإغلاق قناة الجزيرة و"العربي الجديد" ووسائل إعلام أخرى، تحوّل الإعلام الأميركي كله بمثابة خط دفاع واحد للدفاع عن حرية الرأي والإعلام في منطقةٍ لا تكترث كثيراً لحرية الرأي أو التعبير. لقد حصدت قطر مناصرةً لا مثيل لها في مواقفها، فقد كتبت "واشنطن بوست" في افتتاحية أخرى "لا يبدو أن المطالب التي تقدّم بها التحالف السعودي ضد جاره قطر تتطابق مع أولويات الولايات المتحدة. إذ تفيد التقارير بأنهم يشملون إغلاق وسائل الإعلام مثل قناة الجزيرة التي وفرت منبراً للآراء السياسية المعارضة والمختلفة في المنطقة، بما في ذلك أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان". وتضيف الصحيفة "إذا نجح معظم الحكام الرجعيين في الشرق الأوسط في اتخاذ خطواتٍ أخرى نحو إغلاق البدائل السياسية المحلية، سواء كانوا من الإسلاميين المعتدلين أو الديمقراطيين الليبراليين، وعرقلة التقارب مع إيران الذي سيكون ضرورياً في نهاية المطاف لإنهاء حروب المنطقة. والأسوأ أنها سوف تكون قد نجحت بمساعدة الرئيس الأميركي الذي يبدو أنه لا يفهم المصالح الأميركية".
حصدت قطر بدون أن تتوقع ذلك، دعماً إعلامياً لم تتوقع أن تحصل عليه، بسبب طريقة إدارتها الهادئة والرصينة الأزمة، والأهم بسبب اللاعقلانية المفرطة للأزمة ذاتها.
BCA0696E-8EAC-405E-9C84-3F8EA3CBA8A5
رضوان زيادة

كاتب وباحث سوري، أستاذ في جامعة جورج واشنطن في واشنطن