أليس منكم رجل رشيد؟

أليس منكم رجل رشيد؟

05 يوليو 2017
+ الخط -
يكاد الكل يكون متفقا في المغرب على ثلاثة أمور بخصوص "حراك الريف"، أن مطالب الحراك، وكلها ذات طبيعة اجتماعية، مشروعة. أن الحراك ظل، منذ بدايته، سلميا، ويرفع شعارات سلمية، واستمر كذلك حتى بعد أن لجأت السلطة إلى العنف والاعتقالات والمطاردات. أن المقاربة الأمنية التي اتبعتها السلطة فشلت، بدليل أن الحراك مستمر، والاستمرار في المقاربة نفسها يعني أن تكلفة الحل، في النهاية، ستكون كبيرة. 

البداية مع الملك محمد السادس، بوصفه رئيس الدولة كما ينص الدستور، عبّر مرتين عن "قلقه" و"انزعاجه" من الوضع في منطقة الريف. ونقل عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قابله، منتصف يونيو/حزيران الماضي، إقراره بشرعية الاحتجاجات التي ينصّ عليها دستور المغرب، ورغبته في تهدئة الأوضاع في منطقة الريف، والاستجابة لمطالب الحراك.
وفي السياق نفسه، صرّح الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية أن الملك أصدر تعليماتٍ صارمةً بضرورة عرض كل من ادّعى تعرّضه للتعذيب على الخبرة الطبية، وتطبيق القانون بحزم ضد كل من ثبت تورّطه في عملية تعذيب.
أما رئيس الحكومة الإسلامي، سعد الدين العثماني، فقد أقر بالخطأ الذي ارتكبته أغلبيته 
الحكومية، ووزير داخليتها، عندما أصدروا بيانا ينعتون فيه نشطاء الحراك بـ "الانفصال"، ويتهمونهم بخدمة "أجنداتٍ خارجية". وبعد أكثر من سبعة أشهر من التظاهر والاحتجاج، خرج رئيس الحكومة ليحيي طابع السلمية الذي كان، ومازال، يميز تلك الاحتجاجات، ويقرّ بحق المتظاهرين في الاحتجاج، ويعتبر مطالبهم مشروعة، ويتأسّف عن التجاوزات التي قد تكون ارتُكبت في أثناء فترة الاعتقالات والملاحقات المستمرة، ويدعو إلى التهدئة شرطا أول لانفراج الأزمة التي طالت.
واعترف أحد مستشاري الملك محمد السادس، وهو عباس الجراري، صراحةً بأن الدولة ارتكبت أخطاء في تعاملها مع "حراك الريف"، وحمَّل الحكومة ومؤسسات الدولة والأحزاب ما وصل إليه الوضع، قبل أن يعترف بأن الدولة ومؤسساتها فشلت في تدبير الأزمة، والوصول بها إلى بر الأمان، ويُقر، في النهاية، بأن الوضع وصل إلى طريق يكاد يكون مسدودا.
هذه عيناتٌ من تصريحاتٍ لرئيس الدولة ورئيس الحكومة، تلتقي كلها في تشخيص الأزمة والاعتراف بالأخطاء، وهناك تصريحاتٌ كثيرة مشابهة لمسؤولين كبار في الدولة، ولأحزاب سياسية، ونقابات مهنية ولبرلمانيين، من دون الحديث عن مواقف الهيئات المدنية المستقلة، وعن جزء من الإعلام المستقل، الذين حذّروا، منذ البداية، من الانزلاق إلى الأزمة التي كلما طالت تعقّد حلها.
لكن، مقابل هذا التشخيص الذي يكاد الجميع يتفق عليه، يستمر الوضع كما هو عليه، ومعه تستمر الاحتجاجات والمطاردات والاعتقالات والمحاكمات، ويستمر 140 شابا وشابة واحدة، أغلبهم في عمر الزهور، وراء القضبان، وكأن للدولة المغربية عقلان متخاصمان؛ عقل سياسي يفكّر بهدوء، ويدعو إلى التهدئة، ويبحث لها عن مخارج، وعقل أمني أغلق باب التفكير، وحمل عصاه يطارد المحتجين في الشوارع، وبين الأزقة والحواري الضيقة وفوق الأسطح، وأخيرا لاحقهم في الشواطئ، في منظر هستيري يبعث على الشفقة من الحالة التي قد يسبّبها جنون الهاجس الأمني.
وأمام حالة "الانسداد" هذه، كما وصفها المستشار الملكي، يرمي الجميع الكرة إلى القضاء،
ليس باعتباره الفَيْصل، وإنما لأنه الملعب الذي رمت فيه السلطة بكل أخطائها كمن يرمي بجمرٍ حارق لم تعد قبضته تتحمل حرارته. فكل سياسي أو مسؤول يريد أن يتهرّب من تحمّل مسؤوليته يتعذّر بأن القضية باتت اليوم أمام القضاء، وبأنه يحترم استقلالية القضاء، الذي أكّد تقريرٌ صادر عن منظمة الشفافية الدولية العام الماضي أنه "لا يحظى بثقة المواطنين ولا بثقة المستثمرين"، بسبب الفساد والخضوع للتعليمات.
ومع ذلك، تبقى الكرة الآن في ملعب القضاء الذي عليه أن يلتقط الإشارات، ويتصرّف بحكمةٍ أكبر في تدبير الأزمة، وإيجاد مخرجٍ لها. لكن، مع الأسف، من خلال الأحكام الصادرة حتى الآن، والتهم التي يُتابع بها المعتقلون، والتي قد تصل عقوبات بعضها إلى عشرات السنين، لا يبدو أن في القضاة رجلا رشيدا، يمكن أن يفتح منفذا للأزمة، قبل أن تصل إلى الباب المسدود.
مسؤولية القضاة والقضاء اليوم أمام اختبار كبير لاستقلالية هذا المرفق ونزاهته، وإذا كان السياسيون يبحثون عن أعذارٍ للتهرب من تحمّل مسؤولياتهم، فإن القاضي الذي يظلم لا يمكنه أن يجد لظلمه عذرا، أوَ ليس "الظلم ظلمات يوم القيامة"، كما ورد في الحديث النبوي؟ ثم، إن "الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، كما قال ابن خلدون.
في التقرير الذي وضعته هيئة الإنصاف والمصالحة التي شكلها المغرب للبحث في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال "سنوات الرصاص" في المغرب خمسة عقود منذ استقلاله، وقفت الهيئة عند مسؤولية القضاء والقضاة الذين تحوّلوا إلى أداة للعقاب في يد السياسيين والأمنيين، يُزكّون ويُثبتون ويَسكتون عن جرائمهم، بل ويزينونها لهم، ويكيفونها لهم، حتى تبدو قانونية تخدم المصلحة العامة!
وبعد صدور تقرير تلك الهيئة، لم يخرج أي قاضٍ، ممن بقوا على قيد الحياة، يدافع عن أحكامه التي وصفها التقرير بأنها كانت مسيسةً ظالمة وغير عادلة. لذلك، لا يسعنا اليوم، أمام حالة "الانسداد" التي أوصل أصحاب المقاربة الأمنية إليها الوضع في منطقة الريف المغربية، إلا أن نهمس، في أٌذن القضاء والقضاة، "أَلَيْسَ مِنكُم رَجُل رَّشِيدٌ؟"، حتى لا نقول شجاعا، فيُلبس بتهمة من سبقوه إلى الشجاعة، فطاولهم العزل العقاب.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).