العراق تغيير أم إعادة إنتاج؟

العراق تغيير أم إعادة إنتاج؟

12 يوليو 2017
+ الخط -
أستعيد حوارا دار بيني وبين أكاديمي عراقي يعمل في الولايات المتحدة، عما يمكن أن تؤول إليه الأمور في بلادنا، بعد أن طفح الكيل، وساءت المقاصد لدى حكامنا الذين جاءت بهم واشنطن، وباركتهم طهران. يومها، كان الأميركيون يتحدّثون عن انسحاب جيوشهم الغازية من العراق، وتسليم السلطة إلى العراقيين، قال لي إن واشنطن لن تترك العراق أبدا، حتى وهو وسط هذا الخراب، لأنه الدجاجة التي تبيض ذهبا، ولأن هذا الخراب نفسه الذي صنعته هي قد يشكّل سببا آخر، لكي تبقي على سيطرتها على البلاد، مرة بحجة إقامة الديمقراطية، وأخرى بحجة حماية العراقيين من الإرهاب، وثالثة بحجة مساعدتهم على إعادة الإعمار، ورابعة وخامسة إلى أن تهرم الدجاجة، وتكف عن أن تبيض ذهبا، عند ذاك سوف يفكّر الأميركيون في ترك البلاد لأهلها، لكن البلاد عندئذ لن تعود "بلادا"، سوف تصبح "محمياتٍ" صغيرة، ليس لها حول ولا طول.
وأضاف محدّثي أن الأميركيين أصبحت لهم خبرة ودراية في أمورنا، تفوق خبرة (ودراية) الحكام الذين جمعتهم من الأزقة الخلفية لعواصم الغرب والجوار، ونصّبتهم علينا في غفلةٍ شريرةٍ منا، وهم كلما شعروا أن أمور البلاد قد ساءت وتفاقمت، عمدوا إلى تغيير الوجوه الحاكمة، وأحيانا إلى تجميلها وإعادة إنتاجها، كي ترضي الناس، وتجعل من الأميركيين منقذين دائما.
أردف محدّثي: "لا تستعجل، فمن عادة الأميركيين أن يطبخوا طعامهم على نارٍ هادئة في أفران إلكترونية عصرية، تعتمد على ترويض عنصر الزمن، تلك خصلةٌ معروفةٌ عنهم، لا يتفوق فيها عليهم إلا الإيرانيون الذين يحيكون سجادة صغيرة في عشرين عاما، ولا يملون.. انتظر ردحا من الزمن، وسوف ترى أن هذه الوجوه تختفي لتحل محلها وجوهٌ جديدة، أو ربما تجري لها عمليات تجميل لتظهر على نحو مختلف". واختتم: "الحكم الذي ترعاه واشنطن في أي بلدٍ ليس أكثر من سيرك، يتبادل فيه اللاعبون عروضهم في كل موسم، هكذا هي السياسة، ألم يقل ميكيافيللي إن على الحاكم أن يغير وجوه من يحكمون باسمه، كلما تطلب العصر ذلك؟".
في كل منعطف طريقٍ يمرّ به العراقيون، كنت أتذكّر نبوءة صديقي الأكاديمي، تذكّرتها عندما انسحب الأميركيون من البلاد، جرّاء ضربات المقاومة المسلحة، تاركين مسرح "الفوضى الخلاقة" الذي أنشأوه مفتوحا على مصراعيه. وتذكّرتها عندما برز إلى العلن الصراع على موقع رأس الحكومة، وتدخل الأميركيون لتزكية نوري المالكي الذي انعقدت له بيعة الإيرانيين أيضا، وتذكّرتها عندما تصاعدت في ساحات المواجهة صيحات المطالبة بالإصلاح والتغيير، وتذكّرتها عندما أطلقت قوى خفية "دولة الخلافة" التي وضعت العراقيين مجدّدا في قلب العاصفة، حيث أصبحت عودة "البرابرة" أمرا مقدّرا ومكتوبا، ومرحّبا به من الجميع!
وأستعيدها اليوم، وقد آذنت "دولة الخلافة" بالسقوط في العراق على الأقل، وبعدما جعل الأميركيون الظروف تنضج لطلب معونتهم، وللمطالبة ببقائهم، واستقرارهم في بلادنا، حتى من الذين كانوا إلى عهد قريب، يروّجون حكاية الجهاد والتحرير، وبدأنا نسمع عن "سيناريوهات ما بعد تحرير الموصل"، لتغيير الوجوه الحاكمة، أو إخضاعها لعمليات تجميل، وإطلاق "تسوياتٍ"، وعقد مؤتمرات، والتبشير بمصالحاتٍ، وكأن السنوات العجاف اليابسات التي مرت على العراق بعد الغزو لم تكن كافيةً لتدارك الحال، أو تغيير المآل، وقد حصدت منا الملايين الذين رقدوا من دون قبور، ومئات آلاف الأطفال والنساء الذين قضوا غرقا أو حرقا أو اغتيالا، وكذا الشباب والشيوخ الذين قضوا نحبهم غدرا، أو تغييبا، أو اختطافا أبديا، وملايين أخرى من نازحين ومنفيين ومهجّرين ومشردين ومهمشين.
هكذا تمضي المسرحية فصولا، فقد جاء "البرابرة" إلينا لتعليمنا الديمقراطية، وعادوا لمساعدتنا على محاربة الإرهاب، ومواجهة "داعش". وها هم يستجيبون لرغبتنا في بقائهم، من أجل إعادة إعمار بلادنا وبنائها، وقد أصبح بقاؤهم المؤبد ضرورة استراتيجية، ونوعا من الحل، حاملين في جعبتهم "تسويةً تاريخية"، تضمن تقسيم "الكعكة" بالعدل، وتشتري سكوت الأصوات التي كانت تزعم مقاومتها الغزاة، وتطالب برحيلهم، فإذا هي اليوم تروّج بقاءهم، وتنظر إليهم منقذين.
أما الإيرانيون، فمن واقع خبرتهم في صناعة السجاد بنفسٍ طويل، شرعوا في مسعىً حثيث، لتظلّ شراكتهم في احتلال بلادنا وإخضاع أهلنا قائمةً، حتى يمنّ الله علينا بظهور "المهدي" الذي يأتي ولا يأتي. عندئذٍ، سوف يكون لكل حادثٍ حديث.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"