أزمة الخليج وهؤلاء المثقفون

أزمة الخليج وهؤلاء المثقفون

25 يونيو 2017
+ الخط -
يتعفّف مثقفون عرب عن إبداء موقفٍ بشأن التوتر الحاد في منطقة الخليج، ويزاولون نأيا بالنفس عنه، صدورا عن ترفّع وتعالٍ ظاهريْن، ليس فقط بالنظر إلى أوهامٍ مقيمةٍ في مداركهم بأن مشاغلهم إنما تتعلق بقضايا الفكر الكبرى، وبالأسئلة الثقافية الجوهرية، وبالعميق من شؤون الأمم، فلا يكترثون بالعابر في السياسات العربية، وإنما أيضا لأن هؤلاء، وهم غالبيةٌ كبرى، يتعامون عن خطورة الأزمة في منطقة الخليج، وبالتالي في الحال العربي عموما. وليس مقصد هذه السطور الطلب منهم الانحياز إلى دولةٍ محدّدةٍ في النزاع الحادث، وإنما التحديق في التعدّي الفظيع الذي أقدمت عليه حكوماتُ دول عربية على حريات مواطنيها في التعبير، بعقوباتٍ غليظة، إذا ما تعاطف أحدهم مع شعب قطر الذي مارست هذه الحكومات بحقه حصارا مستنكرا، ومنعت أفراده من زيارة الإمارات والسعودية والبحرين، وحظرت على مواطنيها زيارة دولة قطر. ليس التنديد بهذه الإجراءات من مهمات المنظمات والهيئات والفاعلين في موضوعة حقوق الإنسان والحريات العامة فقط، وإنما هو من واجبات كل مثقفٍ مؤمنٍ حقا بقيم الحرية والديمقراطية، وبوحدة الشعوب العربية، ثقافةً وهموما ووجدانا. 

ومن أسفٍ أن مثقفين عربا مارسوا ازورارهم عن إشهار موقفٍ أخلاقيٍّ في صدد هاته المسألة، لأنها تخصّ ناس الخليج وأهله، وهؤلاء المواطنون العرب في عرف أولئك ليسوا شعوبا، وإنما مجرّد سكان يقيمون في منطقةٍ من الرمال، صودف أنها صارت بلادا فيها الكاز والغاز والبترول. ومن المشين أن يكتب مثل هذه اللغة الساقطة كتابٌ وأدباء عرب، من دون أن يعرفوا أنهم، في فوقيتهم المريضة هذه، إنما يهبطون في أسفل قاع. وكان محزنا أن يُعاين مثقفٌ لبنانيٌّ يساريٌّ معروفٌ مشهد التأزم الحادث في الخليج بمنطق "فخّار يكسّر بعضه"، لا لشيء إلا لأنه تأزمٌّ يتعلق بدولٍ في الخليج، طالما عانت دول وشعوب من "رجعيتها"، بحسب مفردات الكاتب التي لاقت تقريظا من آخرين. والمدهش في هذا السلوك المتعالي السافل، والفوقيّ الهابط، أن أصحابه يطوفون في عواصم دول الخليج، مشاركين في مؤتمراتٍ ومناسباتٍ وتظاهراتٍ كثيرة، فضلا عن أنهم يحضرون كتابا ومعلقين في صحفٍ ومنابر ممولة من دولٍ خليجية، كما أن بعضهم تقدّم للتنافس من أجل نيل جوائز سخية تقدمها هذه الدول، وبعضهم فاز بها. ولا يُشار إلى هذه الحقائق هنا لمؤاخذتهم على حضورهم في عواصم الخليج، وكتابتهم في منابر مدعومةٍ بمال خليجي، وتنافسهم على جوائز في أبوظبي والدوحة، وليس أيضا لعملهم على توفير تمويلٍ من هذه الدولة الخليجية أو تلك لإصداراتهم مجلاتٍ أو إطلاق مواقع إلكترونية، وإنما مقصد الإشارة هو الإلحاح على أهمية الأخلاق، ووجوب أن يحوزها المثقف، عندما يُشهر موقفا ورأيا ووجهة نظر، بأن يحترم نفسه أولا قبل أن يحترم جمهوره.
أما ذلك الأستاذ الجامعي المصري العتيد، وناقد الأدب المعروف، وصاحب المؤلفات في البنيوية وغيرها، والمحظوظ بمساهماته في تحكيم مسابقات "أمير الشعراء" في أبوظبي، وكذا "جائزة القذافي العالمية للآداب"، فلم يكن غريبا منه أن يدعو المثقفين المصريين إلى مقاطعة "دويلة قطر" (بتعبيره)، ومشروعاتها الثقافية (جاء على مشروع خدمة اللغة العربية مثالا!)، فلم يُعهد من شخصه إلا الانضباط، وبشكل قطيعيّ معلوم، مع توجهات جميع الأنظمة التي مرّت في مصر. وبشأن مطالبة اتحاد أدباء وكتاب الإمارات المثقفين في بلاده بمقاطعة قطر، التزاما منهم بقضايا وطنهم، على ما قال، فمن الحماقة أن يكترث واحدنا بها، فذيلية الاتحاد المذكور (ورئيسه) للسلطة الحاكمة في أبوظبي، معلنةٌ وظاهرة، ولا يستحي هذا الاتحاد منها.
لا تزيّد في القول، هنا، إن الأزمة الراهنة في الخليج، والخطيرةُ على ما يحسُن أن نعرف جميعنا، محطةٌ ثالثة في تظهير العري الفاضح الذي بدا عليه مثقفون عرب، يعتبرون أنفسهم قوميين ويساريين، كما تألقوا فيه لمّا صارت ثورات الربيع العربي، واستشعروا توجسّا منها، بدعوى تقدّم الإسلام السياسي في أثنائها. ثم انكشفوا أيضا لمّا اصطفوا ضد الشعب السوري في محنته، واختاروا نظام الكيماوي والبراميل المتفجّرة عنوانا للعروبة ونهوض الأمة. وهذا طورٌ ثالثٌ في نحو ست سنوات من التعرّي نفسه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.