وهم الواقعية السياسية في العراق

وهم الواقعية السياسية في العراق

20 يونيو 2017
+ الخط -
لا تزال حمّى العملية السياسية في العراق تصيب كثيرين ممن يأبون إلا أن يكونوا في مصاف الواهمين بأنها ذات جدوى، على الرغم من التجارب في العقد الماضي، والتي أكدت أن ليس في هذه المنظومة مسحة من صواب.
قبل سنين، وفي خضم موسم الانتخابات؛ ظهر في مدينتي مرشحٌ ممن خُدعوا بأن المشاركة السياسية في إطارها الحالي ستكون منفذًا لإصلاحٍ مزعوم أو تغيير مفترض؛ وكان ممن يوصف ماضيه بالنقاء، ولا تعرف له نية سيئة؛ فكتب أسفل صورته الدعائية: "سنصلح ما أفسده غيرنا.. وننجح فيما فشل فيه الآخرون". فلمّا ولج الميدان، عجز عن الحراك، لينفذ ما كان يعد به، ثم انتهى معتقلاً بعدما لفّق له (شركاؤه) تهمة فساد وهدر للمال العام، وأمسى يقضي محكومية نحو عشرين عامًا.
أنموذج عابر يشير إلى وقائع متكرّرة ومآلات معلومة، بات الجميع على درايةٍ تامة بها؛ ولعل التصورات التي تنشط أخيرا في أوساط عديدة داخل المجتمع العراقي، وتعبّر عن سخطها على المنظومة والقائمين عليها من جهة؛ وندمها على التورّط في المشاركة في الانتخابات السالفة من جهة أخرى؛ دليل جديد على أن العملية السياسية ذات القالب المعوّج والأسس المتردية لا تنتج إلا مزيدًا من الهرج والضياع والفوضى والأحداث الهوجاء التي تأخذ البلاد إلى أدنى مراتب السوء، بكل ما تحمله تلك المفردات من معانٍ.
مؤسفٌ أننا في العراق، وبعد نحو عقد ونصف العقد تحت الاحتلال؛ لا نزال ندور في فلك البدهيات، إذ من المفترض أن تكون تجربةٌ بهذا المدى قد أتت أكلها في تشخيص العلة ورسم معالم الحل، فإذا بنا، في كل موسمٍ، نعيد الأفكار نفسها، ونكرّر ما تردّد، ونضطر إلى إيضاح ما هو بيّن وجلي أصلاً، ونشرح ما هو مستوعَب ومُسلّم به. وليس ذلك ناجمًا عن ترفٍ فكري أو استفاضة في التحليل السياسي، بقدر ما هو أمرٌ لازم تفرضه المسؤولية الشرعية والأخلاقية
تجاه طبقاتٍ متجدّدة من الشخصيات والكيانات التي تريد أن تزج نفسها في منظومة العملية السياسية، وتتخذ من شعارات الإصلاح والدوافع الوطنية منطلقًا لذلك؛ ما يجعل قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاضرةً بجميع أركانها، فتتربع على قمة هرم الواجبات المناطة بطلبة العلم خصوصا، وجميع أصحاب الفكر والرأي عامة، عملاً بقول الله عز وجل: (قالوا مَعذِرةً إلى رَبّكُم ولعَلّهُمْ يّتّقونَ).
في مراحل العملية السياسية؛ استحضر المشاركون، من أهل السنّة تحديدًا، مبرّراتٍ جعلوها في واجهة خطاباتهم وأحاديثهم التي يسوّقون بها مشاركتهم؛ وعلى الرغم من أنها تبريرات لم تصمد في أول منازلةٍ على أرض الواقع، فضلاً عن هزيمتها السريعة في مواجهة ثوابت الشرع ومقتضات العقل؛ إلا أن صنف المشاركين ما زال يتمسّك بهذا النوع من أدوات الاتكاء التي ليست ذات جدوى.
ظهر، أخيرا، مصطلح "الواقعية السياسية" الذي أراد مروّجوه أن يتخذوا منه وسيلةً لتحقيق أمرين: محاولة ضرب القوى المناهضة للعملية السياسية، وتوصيفها بأنها تعمل برؤى خارج سياق الأحداث والتطورات؛ ما يعني إسقاطها ومشروعها كليا، تنفيذًا لتوجهات غربية واضحة وصريحة، خصوصا حين يكون الحديث عنها من باب "أنها تعمل بانفصال عن الواقع والناس، ما جعلها رقمًا ليس ذا قوة داخل المعادلة العراقية بالمنظور الدولي"! الأمر الثاني؛ تبرير المشاركة السياسية والرضا بالتنازل عن ثوابت كثيرة لبلوغ الحد الأدنى من القبول في أوساط العملية السياسية، وهم يتصورون أنهم بالانتماء إليها سيمارسون الإصلاح من الداخل، من دون أن يتفكّروا في حال السابقين ممن طرحوا هذه الرؤية التي لم تتجاوز حدود طاولات التنظير.
ولج أصحاب "الواقعية السياسية" مدخلاً خاطئًا خلطوا فيه، بقصد أو بغير قصد، بين مفاهيم وأدبيات كثيرة من المفترض أن تكون نصب أعين النخب ومريدي الإصلاح والتغيير الحقيقيين، فحين يكون خطابهم المعلن مدرجاً في إطار نقد الحكومة، لكن حراكهم العملي يفضي إلى تسجيل كياناتهم السياسية (رسميًا) ضمن مؤسساتها المختصة، ما يمهد السبيل للمشاركة الفعلية لاحقًا؛ يصبح مجرد خطاب ليّن وهلامي، لا يختلف كثيرًا عن خطاب من كانوا هدفًا لسهام نقدهم قبل بضع سنين من أصحاب المناكفات داخل العلمية السياسية الذين تحرّكهم خلافات المصالح، وتفاوت سلطات النفوذ؛ لاسيما وأن هذا الخطاب لا يُصرّح بأن العملية السياسية أساس المشكلة، وأن علاجها بالاستئصال التام لا بمجرد نية الإصلاح.
التلاعب بالثوابت والقيم حين يُغلّف بـ "الواقعية السياسية" يُعد منعطفًا للانتقال من المناهضة إلى المعارضة. وفي المشهد العراقي، ليس الفرق بين المصطلحين كبيرًا فحسب، بل خطير إلى درجةٍ تأخذ أصحابه إلى الاعتراف، ضمنًا، بمشاريع الاحتلال، وعقوق مشروع المقاومة وأهدافها وتاريخها.
avata
avata
جهاد بشير
جهاد بشير