مجالس فتوى على مقاهي الإسكندرية

مجالس فتوى على مقاهي الإسكندرية

10 ابريل 2017
+ الخط -
سيّرت "إدارة الوعظ" في الأزهر قوافل من الدعاة والوعاظ على مقاهي (وكافيهات) في الإسكندرية، من أجل "توعية المواطنين ودعوة الشباب للوسطية والاعتدال والبعد عن منهج التشدد". هكذا جاءت صياغة الخبر في صحيفة المصري اليوم، السبت 7 إبريل/ نيسان الجاري. يقول يوسف رجب، أحد الوعاظ المشاركين في واحدةٍ من قوافل الوعظ، إن ما يقومون به هو من أجل "تقديم الدعوة بطريقة سلسة سهلة باليسر والموعظة الحسنة"، ويؤكد أن "مجالس الفتوى المصغرة" التي يعقدونها على (الكافيهات) والمقاهي تلقى شعبية كبيرة، وأن المواطنين "لا يرغبون في مغادرة المقاهي ويطالبون باستمرارها". ويقول أيضا إن "الفكرة جديدة علينا في ما يتعلق بالمقاهي، خاصة أننا نتجول في المدارس وأقسام الشرطة والسجون. لذلك، لا توجد خطة تنسيقية حتى الآن، ولكننا مستمرون في المرور على المقاهي والكافيهات لتوضيح الدين الإسلامي وسماحته ووسطيته".
ما يفعله هؤلاء الوعاظ الرسميون لا يختلف كثيراً عما كانت تفعله قوافل الدعوة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، منذ نشأتها وحتى قمعها وإسكاتها بعد انقلاب يوليو 2013. وهي الطريقة نفسها التي بدأ بها مؤسس الجماعة، حسن البنا، جماعته عام 1928، حين كان يدعو الناس في المدارس والمقاهي والمساجد، كما أوضح ذلك في مذكّراته "الدعوة والداعية"، سواء في أثناء وجوده في مدينة الإسماعيلية، أو بعدما انتقل إلى القاهرة، وبدأ في القيام بجولاته الدعوية في الوجهين البحري والقبلي. ومثلما لاقت دعوة "وعّاظ الأزهر" قبولاً لدى المواطنين، هكذا كانت الحال أيضا مع حسن البنا الذي يشير إلى استقبال الأهالي له ولدعوته بشكل إيجابي، حيث يكتب في مذكراته "كان شعور السامعين عجيباً، وكانوا ينصتون في إصغاء، ويستمعون في شوق، وكان أصحاب المقاهي ينظرون بغرابة أول القول، ثم يطلبون المزيد منه بعد ذلك، وكان هؤلاء يقسمون بعد الخطبة أننا لا بد أن نشرب شيئاً أو نطلب طلبات، فكنا نعتذر لهم لضيق الوقت..".

تحاول الدولة المصرية، إذاً، أن تعيد إنتاج منظومة الدعوة لدى "الإخوان المسلمين". ولكن، على طريقتها الخاصة من خلال الهيمنة الكاملة على الشأن الديني، فالوعاظ هم في الأصل موظفون في الجهاز الإداري للدولة. وبحسب اعتقادهم، فهم القيّمون على تعريف معنى "الدين" للمواطنين، باعتبار ذلك من وظيفتهم الرسمية، أي أنهم يروّجون ما يسميه عمرو عزت "دين الدولة"، وهو نسخة مؤدلجة ومؤطرة من تعريف الدولة ونظامها السياسي للدين والتي لا يكف رئيسها عن تكراره والتأكيد عليه كجزء من معركته مع الجماعات والتيارات الإسلامية من جهة، ومع مؤسسة الأزهر من جهة أخرى. وتجري عملية ترويج "دين الدولة" تحت غطاء نشر المفهوم الغامض "للوسطية والاعتدال" الذي بات أحد الأطروحات الرئيسية للدولة السلطوية، في سبيل سيطرتها، ليس فقط على المجال الديني، الرسمي وغير الرسمي، وإنما أيضا على إيمان الأفراد وضمائرهم من أجل تدجينهم دينياً وسياسياً. تلعب الدولة إذا هنا دور "الإمام"، بحسب تعبير عزت، القائم على تعريف المواطنين بدينهم وقواعده وكيفية ممارسته، تماماً مثلما كان يفعل "الإمام" حسن البنا مع مؤيديه وأنصاره.
جانب آخر يقبع في خلفية هذه "الموجة الوعظية"، يتمثل في الانقسام والتوتر المتزايد بين وزارتي الأوقاف ومؤسسة الأزهر، والذي لا يكاد يخبو حتى يعود إلى الواجهة مرة أخرى. فعلى الرغم من أن كلا المؤسستين تابعتان للدولة، وتقعان تحت سيطرة نظامها السياسي (لا تفيد هنا كثيراً مسألة استحضار الاستقلال الشكلي لشيخ الأزهر الموجودة في الدستور، نتيجة الهيمنة الرسمية والإدارية للدولة على مؤسسات الأزهر واقعياً)، إلا أن العلاقة بينهما وصلت إلى حد الهجوم المتبادل على صفحات الصحف وفي الإعلام المرئي. وقد اختار النظام السياسي دعم موقف "الأوقاف" التي يدين وزيرها، محمد مختار جمعة، بالولاء المطلق للجنرال عبد الفتاح السيسي، أملاً في أن يعيّنه الأخير في منصب شيخ الأزهر، بعد انتهاء ولاية شيخه الحالي، الدكتور أحمد الطيب. كما لا يخفى على أحد التوتر بين الأخير والسيسي، والذي تجلي بوضوح في الجدل بشأن مسألة الطلاق الشفهي التي يطالب السيسي بتوثيقها شرطاً لثبوتها، ورد عليه "الأزهر" بإجماع هيئة كبار علمائه على التأكيد على حدوث الطلاق، حتى وإن لم يتم توثيقه رسميا، وهو ما أثار حفيظة السيسي الذي لا يتخيل أن يعارضه أحد، خصوصا لو كان موظفاً في الدولة. لذا، تردّدت أقاويل كثيرة بشأن إمكانية تعديل البرلمان وضع شيخ الأزهر في الدستور المصري، وجعل تعيينه وعزله في يد رئيس الجمهورية، باعتبار ذلك نوعا من الضغط، وابتزاز الطيب للتماشي مع رغبات السيسي.
تفريغ المجال الديني من الشبكات الدعوية والدينية للجماعات الإسلامية، خصوصا "جماعة الإخوان"، أحدث صراعاً كبيراً بين المؤسسات الدينية، في محاولة لملء هذا الفراغ، ليس بهدف "نشر التديّن الوسطي الجميل"، بحسب السردية المفضّلة لدى ممثلي هذه المؤسسات، وإنما بالأساس من أجل تقوية حضورها الاجتماعي والرمزي في موازين القوة داخل الدولة، والحصول على مكانة مفضّلة لدى نظام السياسي، حتى وإن كان ذلك من خلال تسيير قوافل للوعاظ والدعاة، يوزعون الفتاوى علي المواطنين داخل المقاهي (والكافيهات)، كما لو كانوا مجموعة من الباعة المتجولين، وكله حسب الطلب.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".