رجاء بن عمّار صديقة الشمس

رجاء بن عمّار صديقة الشمس

07 ابريل 2017

رجاء بن عمّار.. حالة خاصة في المسرح التونسي

+ الخط -
لا توجد جملة أولى. رحلت رجاء بن عمّار البارحة. رحلت في الليل وهي صديقة الشمس. كل ما يأتي من كلام تالياً يأتي من حيّز الحزن والفقد المرّ لشخصيةٍ استثنائية في المشهد المسرحي التونسي والإنساني. عرفت رجاء بن عمّار منذ ما يقارب ربع قرن. شاهدت ربما كل أعمالها المسرحية في مسرح التياترو، وفي مسرحها مدار قرطاج. كنا جيراناً، مسرحها ومنزلي في سيدي بوسعيد، وكان لنا أصدقاء مشتركون قريبون. كنا نلتقي ونأكل سوياً ونحكي، وأنا أسمع حكاياتها وحكايات زوجها المسرحي المنصف الصايم. أحببت شخصية رجاء كثيراّ. كانت أمّا لأخواتها ولزوجها وأصدقائها، حتى أولئك الذين يكبرونها عمراً. في زيارتي أخيرا تونس، مع عبير زوجتي، زرنا رجاء في مسرحها، وتناولنا طعام العشاء في بيت لطفي الحافي، صديقنا المشترك في المرسى. كنت أعلم أن قلبها كان ضعيفاً. منذ عرفتها كنت أعرف ذلك، وعلى الرغم من ذلك، كانت تبدو امرأة من فولاذ. 

رجاء بن عمّار جميلة الجميلات، الأنثى بكل الأنوثة الطاغية. لم أرها يوماً إلاّ بالأسود، وكأنها في حداد أبدي. كأنها في حزن على قلبها الهش. كل من كانوا حولها كانوا أطفالاً كباراً وصغاراً يعشقونها، يتمسكون بأطراف ثوبها الأسود، فقد كانت تمتلك طاقةً لا تجارى على العطاء والحنان والحزم والشجاعة. كانت ذات جمال شامخ وعفوي وغير متجمّل. لم أرها يوماً تضع مكياجاً إلاً في مقابلاتها التلفزية. صدرها مفتوح للهواء، ونظراتها دائماً إلى فوق، وكأنها تنظر إلى الحياة، باستعلاء الساخر من تقلبات الحياة وتقلبات الأصدقاء، وهي تعلم يقيناً أنها متفوقة على الحياة، برغبتها بالحياة، وعلى الأصدقاء بثقتها وصدقها ونبلها وأصالتها وإخلاصها للمسرح فناً وشغفاً، غير مكترثة بما يجمعه بعض أصدقائها من المسرحيين من الأموال، وما يمتلكون من البيوت والأراضي، وهي التي قدّمت عمرها للمسرح، وما تزال تعيش وزوجها في شقة مستأجرة كغالبية المواطنين.
تلك المرأة التي كان عليها أن تعيش مع قلبٍ ينهب قوته المرض رويداً رويداً، قدمت للمسرح التونسي مفهوم استخدام الجسد على حشبة المسرح. ليس الكلام ولا جعجعة الحوارات الصاخبة هو المسرح. قدمت رجاء جسدها، وجعلته يحكي من غير كلام، فالجسد قادر على اختراع اللغة التي تستحقها الفرجة المسرحية، لكي يصل إلى روح المتلقي في قاعة المسرح، فيجعل روحه تهتز، وتحمله إلى فضاءاتٍ من الأسئلة والأفكار. هذا ما ميّز رجاء بن عمّار عن غيرها من المخرجين المسرحيين، رجالاً ونساءً. وهذا ما نقلته عبر التدريب إلى جيل الشباب، وهذا ما جعلها حالة خاصة ومميزة في المسرح التونسي. ولم تكن منغلقة، ولا منعزلة على التجارب المسرحية العربية الأخرى، ولا كانت عصبية الانتماء سوى للمسرح والفن، ففي عمليها، "بيّاع الهوى" و"ساكن في حي السيدة"، كانت تعبر عن هذا الانفتاح صوب الثقافات العربية، بكل ما تحمله من غنىً وتلاقح إيجابي.
وكانت رجاء بن عمّار طباخة ماهرة. تطبخ كمن يؤلف حكايةً جميلةً، كانت مخرجة لأهم وأشهى طبق كسكسي أكلته طوال عشرين عاماً من حياتي في تونس. كنا في المنزل الصيفي للصديقة فاطمة بن سعيدان في الرفراف، وراحت رجاء تطبخ، ولم يكن المنصف زوجها غير مساعد الطباخ الأول، ترشده كيف يفرك الكسكسي بكفيّه وكيف يحركهما، وسرعتهما المكرّرة المطلوبة، لكي يتشرب الزيت الحنطة الناشفة. كانت النتيجة غداءً كأنه مسرحية من مسرحياتها التي تدخل إلى الروح بهجة، وإلى الجسد لطفاً وإشباعاً.
منحتني تونس أشياء وصداقات جميلة لا أنساها، كما أصابتني بخيباتٍ لا أنساها. وكانت رجاء من أجمل الأشياء والأصدقاء التي منحتها تونس لروحي وذاكرتي وحياتي. كانت تنظر دائماً إلى الشمس، ولذا لم أدهش، حين تهجّمت شرطة بن علي عليها، وعلى رفاقها المعتصمين أمام المسرح البلدي، عندما قالت للشرطي الذي سألها: لماذا تنظرين إلى فوق، أجابته: أنظر إلى الشمس. أحبّ الشمس.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.