خسائرنا وأرباحنا في عام الضباع

خسائرنا وأرباحنا في عام الضباع

01 يناير 2018
+ الخط -
ليت الزمن مثل الرزنامة. أوراق تتساقط. يوم ينسلخ. ويبدأ يومٌ جديدٌ يجبُّ ما قبله. لكن الزمن ليس مثل الرزنامة. لا انقطاع فيه. لا شغور. لا ينهي شيئاً تماماً ليبدأ شيء جديد تماما. تقسيمنا للزمن إداري فقط. لإدارة الأحوال والمعاملات. لكن ما يحصل في إهاب الزمن، تحت جلده السميك لا يتغير. لا يسقط بسقوط ورقةٍ من حائط. لكننا نخدع أنفسنا، ونسلك سلوك الرزنامة. سلوك الساعة التي تطوي الوقت طياً من دون عودةٍ إلى الوراء. لا يبدأ واقع جديد بالرنَّة الأخيرة لمنتصف الليل. الزمن موضوعي. لا يخضع لرغباتنا باعتباره تغيراً من نقطة إلى نقطة. هذا فعل بشري. وهو، في أحوالنا الراهنة، لا نقوى عليه. كأننا مسلوبو الإرادة. كأننا سجناء لحظة تخثّرٍ مديدة. خدر، أو شلل. لذلك تسهل الاستباحة. ويكون ما هو عصي على الفعل في غير مكان كشربة ماء عندنا. لن تحمل هذه السنة التي تستعدّ للفظ آخر أنفاسها، شرورها وتمضي. سيبقى السيئ على سوئه، ما لم تحرّك هذه الإرادة أطرافها الطويلة، وتخرج من حالة الخدر، أو الشلل. ستسقط أوراق هذه السنة حتماً. سنكتب رقماً جديداً في تأريخنا الأحوال والمعاملات. لكن شيئاً لن يتغير. هذا الرقم الجديد الذي يسلخ سنة من أعمارنا لا يسلخ الواقع معه.
يعد الآخرون، وهم كثر، إنجازات: عدد الكتب التي طبعت، التي ترجمت، الاختراعات العلمية التي طوَّرت تكنولوجيا، المراصد العملاقة التي اكتشفت نجوماً، والسيارات التي لا محرّكات فيها ولا عوادم، الحقوق التي دافع عنها أصحابها وثبَّتوها في وجه محاولات انتقاصها، الأفلام التي فازت في المهرجانات، والأغاني التي ضربت أرقاماً قياسية في التداول، الانتخابات الحرّة التي جاءت بجيدين وسيئين على السواء، الشبّان الذين يخرجون للدفاع عن قضايا لا تخص مجتمعاتهم (قضايانا على الأغلب)، ويلاحقون أصحاب المداخن وتجريف الغابات وتبديد مقومات العيش على هذه الأرض، من دون أن يزجّوا في غياهب السجون، ولا يعثر لهم على أثر. كثيرة هي الأشياء التي يعدّها غيرنا مستعرضين فعاليتهم في الزمن واغتنامهم، لكن ماذا نعدُّ نحن؟ كيف نقيم هذه السنة الطافحة، الفائضة من وعاء الزمن الكوني الكبير؟
في وسع بعضنا أن يحصي أرباحاً من دم سال، وعمران تهدَّم، وأمل تقهقر. هؤلاء هم تجار الكوارث والحروب والقضايا. لا زمان لهؤلاء ولا مكان، لأنهم موجودون في كل زمان ومكان. لكن حصتنا منهم، بين شعوبٍ عديدة، كانت الكبرى. ماذا عن الغالبية العظمى من أناسنا؟ هؤلاء هم أكبر الخاسرين من عام القتل والنهب والتدمير، واسع النطاق، الذي نودّعه بلا أسف. ندوس على ورقته الأخيرة، كما لو أننا نسحقها سحقا.
لا شيء يعادل ما خسرناه فيه. دُمِّرت مدن كاملة بذريعة تحريرها. وشرِّد الملايين باسم محاربة الشر. كان الشرُّ يحارب الشر. ولم يجد الخير موطئ قدم له في عامٍ يبدو أنه مصمَّم بيد كبير الأبالسة. الشرُّ بكل قسوته وظلمته خيَّم على شرقنا: من الموصل إلى الرّقة، ومن جبال سنجار إلى صنعاء. خرائط دول المشرق، والجزيرة العربية، الكبيرة تبقَّعت بالدم. الأوبئة القديمة، المنقرضة في بقاع عديدة من العالم، عادت لتضرب. أكثر من ميلون يمني أصيبوا بالكوليرا. ملايين الأطفال في العراق وسورية واليمن افتقدوا الاحتياجات الأولى التي تمكّنهم من البقاء على قيد حياة نكدة. حصارات وتمزقات في قلب المجتمعات التي بدت لنا أكثر "تجانساً" وتماسكاً من غيرها. مئات مليارات الدولارات أهدرت على نزعات نابليونية صغيرة. ارتماءات على إسرائيل من دول قريبة وبعيدة مقابل آلاف الوحدات الاستيطانية، وتركيع الفلسطينيين أمام مغتصب بلادهم. ماذا بعد؟ ماذا "أنجزنا" في سنة الضباع هذه؟ أي أثرٍ تركه عملٌ مكتوب بالعربية، أو ممهور بها في هذا العالم؟ بماذا سيتذكّرنا العالم عندما يحصي أحداث سنة 2017؟ الوحوش الذين تخرجوا من مختبر فرانكشتاين، وصرخوا باسم الله، بالعربية الفصحى، في شوارع الآخرين واحتفائهم بالحياة التي لا تعطى مرتين؟ نشرات الأخبار التي تصدّرتها دماؤنا، ومدننا المدمرة، ولاجئونا الذين يرمون أنفسهم في البحار فراراً من بلادهم المحترقة؟ قولوا لي ماذا؟
آه، نسيت.
شراؤنا لوحة ليوناردو دافنشي "سلفاتور موندي" (مُخلّص العالم) في رقم قياسي لم تسجله لوحة من قبل: 450 مليون دولار، أو مليار ونصف المليار من الدراهم أو الريالات!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن