لماذا تنتحر الأحزاب في الاْردن؟

لماذا تنتحر الأحزاب في الاْردن؟

07 نوفمبر 2017
+ الخط -
من الطبيعي أن تظهر بعض الأحزاب وتختفي، من دون أن يشعر بها أحد، وهذا ينطبق على الأردن كما على غيره، ولكن أن يندرج هذا الأمر على حزبين يمثلان تيارين سياسيين أصيلين يعتبران من أعمدة المفرز السياسي، بعد الانفتاح على الحياة الحزبية في العام 1989، فهذا أمر ينبغي الوقوف عنده بتمعن، ودراسة أسبابه وطرح الأسئلة في جوهر هذا التغيير، فالمعروف أن العودة إلى الممارسة السياسية في الاْردن، بعد انقطاع دام عقدين ونصف العقد، أظهرت أربعة تيارات سياسية أساسية، أولها القومي، والذي اضمحل أو كاد، ولم يبق منه غير بعض الهياكل التنظيمية الموزعة على عدة أحزاب، فقدت جوهر دورها بعد انهيار حكومة البعث في العراق، وزادت من محنتها أيضاً الأحداث المأساوية في سورية، ويكاد أن يقتصر دور هذا التيار على بعض التظاهرات. التيار الثاني هو اليساري، والذي تلاشى دوره تقريبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، إذ فقد المقدرة الفعلية للإجابة على التساؤلات الكبرى التي طاردته بها جماهير الناس.
أما التياران المهمان اللذان أعني: الإسلامي، ويتمثل بالإخوان المسلمين، وذراعه السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي. والثاني التيار المحافظ الوسطي، وممثله الحزب الوطني الدستوري. وقد كان التيار الإسلامي، على الدوام، جزءا من مسيرة الدولة الأردنية عبر تاريخها. وكان يحظى برضاها وتسهيلاتها، لتمارس أعماله جمعية أهلية، ولكن بنشاط سياسي.
ثم تغير الحال، وانقلب الغرام إلى مخاوف وشكوك، مع انطلاقة الربيع العربي. وعلى الرغم من أن هذا التيار احتفظ بتمسّكه بإصلاح النظام، من دون تغييره، مع تنفيساتٍ، في بعض الأحيان، فإن هذه الاستراتيجية قابلة للتغيير، إذ لم يحصل هذا التيار على تنازلاتٍ لصالحه، تمسّ جوهر العملية السياسية، وتتجلى بمكاسب حقيقية، يمكن أن تزحزح الحالة السياسية الأردنية عن حالتها الراسخة. وقد بلغت هذه الرغبة ذروتها مع وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، وحركة النهضة الإسلامية في تونس، وتقدّم الإسلاميين في ساحات التغيير العربي. هنا وصلت العلاقة مع السلطة إلى حدّ القطيعة، ولأول مرة في تاريخها. ومع ذلك، وعلى الرغم من التضييق، لم تبادر الدولة إلى حظر هذا الحزب، وما لم يكن في الحسبان قد حصل، فجاءت نتائج الربيع تبدو كابوسا لكثيرين ممن تفاءلوا بها، أو راودتهم لحظة أن الحال المر قيد التغيير، فها هي الدولة العميقة تستعيد المبادرة، وتعيد حظوظها من جديد. ففي مصر سقط حكم "الإخوان". وفي تونس لم تستطع العملية السياسية التقدم. وفي سورية، بادر النظام الى الانقضاض بعنف على المعارضة.
وانعكس ذلك كله بشكل مرّ على الحركة الإسلامية في الأردن. فجأةً تصبح بمواجهة الحكومة، من دون سواتر دفاعية وبأوراق مكشوفة، بين الطرفين، فما العمل، هل تنتقم الحكومة، وتلبي مطالب المحيط العربي المستجدة بالتضييق على التيار الإسلامي حد الاختناق. هذا لم يحصل، وإنما تم استثمار اللحظة حكومياً، بالتخلص من بعض "الشوائب" الإخوانية، قطع الصلات بين "الإخوان" وحزب جبهة العمل الإسلامي، قطع الارتباط مع التنظيم العالمي، أردنة الحركة. أما إخوانياً، وتحت ضغط المرحلة، فقد حصل هذا وأكثر، بحيث تراجعت الحركة عن مقاطعة الانتخابات بأنواعها كافة. بدأت على الملأ تناقش مفهوم الدولة المدنية، ما أدى إلى انقسامات عديدة داخل بنية هذا التيار، أضعفته ربما، لكنها من دون شك أدت إلى تغيرات جوهرية في بنيته، جعلته مختلفاً تماماً عن ذلك التيار الذي تعاملنا معه عقودا طويلة. ونلحظ أن التيارات الثلاثة السابقة خضعت، في عملية نشوئها وتغيرها، لعوامل خارجية بحتة، وكان العامل الداخلي ثانوياً في أغلب الأحيان، فهي ارتبطت بأيديولوجيات عابرة للجغرافيا الوطنية، وكذلك لمحدّدات سياسية غير داخلية. ولأجل ذلك، لم يرتبط ضعفها أو قوتها بالمحدد الداخلي.
أما التيار الرابع فهو في صميم العملية السياسية الداخلية، والمقصود التيار المحافظ الوسطي، والذي كان يمثل الدولة، بتياراتها وأجهزتها، وكان يحظى برعايتها ودعمها، بل كان جُل أعضائه من رجال الدولة السابقين والحاليين. وكانت الدولة تحاول من خلاله أن تلغي، من ذاكرة الناس، أي خوفٍ من عواقب الانتماء أو التعاطف مع أي حزب، وأنها (الدولة) ألغت فكرة تحريم الحزبية، وذلك بأن أوجدت الانطباع بأن لها حزبها. وشارك التيار، وتمثل في كل ما له علاقة بالعملية السياسية، وحظي بدعم الدولة في كل المراحل، وكان مخلصاً أميناً لها، ولكننا نرى الحزب الممثل له يحل نفسه، فما الذي جرى؟ هل تغيرت الدولة أم الحزب؟ وهل فشلت التجربة؟ وأين الخلل؟
نعم، فشلت التجربة ولكن لماذا؟ فَلَو عدنا إلى السبب، سنجده مركباً، فآلية صنع القرار السياسي في الاْردن، وعلى اعتبار أن الغاية لأي حزب هي الوصول إلى السلطة، فإن موقع الأحزاب، من المحدّدات الرئيسية في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بعيد جداً عن المكان الذي قد يجعله مؤثراً. هنا إذاً النقطة الأساسية، فالغاية من وجود الحزب غير متحققة. وبالتالي، تقبع مكانته في الشكل البعيد عن أي تأثير، بمعنى أنه وجود ديكوري تكميلي، يفقد قيمته، بعد
أن تنتفي الحاجة إليه. وهذا ما حصل تماماً، بحيث برزت الآن تيارات اجتماعية وسياسة جديدة أكثر جدوى للدولة، لكي تتحالف معها، باعتبارها زبونا جديدا يرعى إطلالتها على الناس، ممثلة ديمقراطية شكلية، ولكن بوجه اقتصادي بحت. لاًجل ذلك، كانت النهاية محتومةً، حينما رفعت الدولة غطاءها ودعمها عن هذا التيار، وتستبدل بدعمها تيارا نيوليبراليا، يؤمن فقط بالمحدّد الاقتصادي للمشاركة السياسية. أما الحزب فلم يستطع أن يغير عادته الأصيلة، في كونه حزب الدولة، وأن ينتقل من حضنها إلى أحضان المجتمع، وأن يرسخ قناعة مختلفة عن التي تقول إن العشيرة وحدها القادرة على التعبير، وحماية المصالح للمجتمع. بل وعلى طول فترة مزاولته العمل السياسي، احتضن هذه الفكرة، وعمل من خلالها، بل ولم يلحظ سرعة انزياح الطبقة الوسطى إلى مستوى الطبقات الفقيرة، وهي بالطبع الحامل الحقيقي لاًي فكرة. بل ولم يلحظ أن جزءا من هذا التغير كان نتيجة التغيرات الديمغرافية السريعة للمجتمع الأردني، بنتيجة الهجرات والظروف المحيطة، الأمر الذي أوجد فئات اجتماعية غير متيقنة من حقيقة مصالحها، الأمر الذي أسقطها في فخ الأيديولوجيات.
غاب ذلك كله تماماً عن صناع القرار في هذا الحزب. لأجل ذلك، كان انتحاره علانية هو وصوله إلى لحظة حقيقة أنه فشل في أن يقدم للأردنيين الراغبين في حزبٍ يبعدهم عن الأيديولوجيا، ويقربهم من مصالحهم، وهكذا كان الانتحار فجًّا. ولكن، هل من عِبر؟