أثر العابر في الصحراء

أثر العابر في الصحراء

30 أكتوبر 2017

(محمد العامري)

+ الخط -
ما الذي يربط الرسم بالكلمة، عموماً، والشعر خصوصا؟ يُطرح هذا السؤال، كلما وقفنا أمام تجربة إبداعية تمزج بين حقلين، يبدوان من منشأين مختلفين. أقول يبدوان مختلفين من حيث جوهر كل من الرسم والكلمة، فالكلمة مصدرها النطق. هي صامتة على الورقة، ولكن عندما نسلط عليها نظرنا نسمعها ترنّ في آذاننا، فيما يحيلنا الرسم إلى أشكال ورؤى. أي إلى ما هو بصري بالدرجة الأولى. يبدو الرسم، أيضاً، صامتاً. لا نطق فيه. إنه يقول لنا الشيء نفسه الذي نراه. هكذا يبدو من النظرة الأولى. لكن هل هو صامت فعلا؟ هل هو من مصدر غير "أدبي" تماماً، كما هو شأن الكلمة؟ يصعب الجزم. لكن رؤية رسومات الكهوف تقول لنا أكثر من مجرد خطوط وألوان صامتة. إنها تقول لنا حكاية، أو تريد أن تخبرنا بما تنطوي عليه هذه الخطوط "البدائية" من أفكارٍ وتصورات. هناك ما هو ثاوٍ في هذه الخطوط التي خطّها "شامان"، أو ربما امرأة، على جدار الكهف. ثمة "لغة" تنطق بصورة. وهذه "اللغة" تعبِّر بالخط واللون عما لم يستطع اللسان قوله بعد. أو ما لم يتمكّن من ضبطه في نظام كتابي. بهذا المعنى، يبدو الرسم سابقاً على الكلمة في التعبير عن "وجودٍ" ما في العالم. هناك كلمات غائبة، تريد إخبارنا بما يفكر فيه "مجتمع الكهوف". سواء ما تعلق منه بزلفى لقوة كبيرة غير مفسَّرة، أو بارتقاء "البكمة" الكلامية، والعماء اللغوي، إلى ما هو فني. وهذا ارتقاءٌ من الحاجة الأولى إلى اللعب والتزيين الجمالي.
لم يفترق الرسم عن الكلمة في الطور الحضاري البشري، بل اقترنا في لحمةٍ واحدةٍ، كما نرى ذلك في اللغة المصرية القديمة التي مزجت الكلمة بالرسم، ووحّدت بذلك أداتي التعبير البشري الأوليين في جسدٍ لا فكاك منه. لكن يبدو أن للكلمة مطامح كبيرة. فهي صارت قادرةً على التناسل، بما لا يمكن للرسم أن يضبطه، أو حتى يجاريه. جاء وقتٌ استقلت فيه الكلمة عن الجسد الواحد، وانشقت عنه، لتؤسس عالماً غير نهائي.
أفكِّر بهذا، وأنا أرى إلى حصيلة عمل التشكيلي الأردني، محمد العامري، على كلمات صاحب هذه السطور. والغريب أن العامري اختار عنواناً لهذا التعاون، يعود بالكلمة والرسم إلى أصلهما الأول، على الرغم من قرون من الانفصال بين عالمي الرسم والكلمة، واستقلال كل واحد منهما في حقل يخصه دون غيره. أثر العابر، هو هذا العنوان. من هو هذا العابر؟ قد يبدو كاتب هذه السطور تحديداً، كما هو مسطَّر على البورتفوليو الكبير الذي أنجزه العامري، "استناداً" إلى قصائدي. ولكن المتمعن في العنوان، ثم في الرسوم الطافحة بألوان بيئتي (محيط مدينة المفرق الصحراوية) يقف أمام "طروس" تعيد بناء أزمنةٍ أقدم من يومنا هذا الذي يطلع منه هذا العمل المشترك. أثر العبور عند العامري يذهب إلى خطوة أقدم من خطانا اليوم فوق أرضٍ لا يلوح فيها سوى الترابي الكاسح، غير أن هذا الترابي الكاسح، هذا الخلاء الواسع، هذا القفر المنقطع عن خطى الحاضر، ينطوي على خرائط عابريه الكثر، وعلاماتهم المتروكة للريح والفراغ والصمت.
على عين الفنان أن تدقّق في الخلاء، لترى خطى العابرين وآثارهم. فهذه الصحراء المبقَّعة برسوم بشرية راهنة، ببيوت متناثرة هنا وهناك، بأسلاك كهرباء وهاتف، وأكياس بلاستيك وقراطيس طيّرتها الريح من المدينة القريبة التي تختلط فيها اللهجات الأردنية والسورية، بعدما غيّرتها جموع اللاجئين السوريين الذين عبروا الحدود القريبة، فراراً من الحرب (وهذا عبور راهن وملموس باليد والعين والأذن)، تخبئ علاماتها ورموزها. يذهب العامري إلى شرق الطريق الدولية المهجورة. هناك طرقٌ أقدم شقت هذه الصحراء. هناك قوافل لا تحصى مرّت بها جيئة وذهاباً حاملة حنطة، بخوراً، فواكه مجفّفة، توابل، أنبياء وشعراء وملوكاً. يرسم العامري ما تراه عينه وعين خياله. لا يحاكي. ذهب هذا الزمن. لا ينقل. لا شيء يلوح غير الترابي الكاسح، بل يعيد بناء عالمٍ، ربما كان موجوداً ذات يوم، وربما لم يوجد إلا في الوقع الذي تركته هذه الصحراء عليه. هل تطفح هذه البيئة القفر بكل هذا البهاء اللوني؟ أكان فيها مساحة للنيلي والأزرق؟ البيئة نفسها لا تقول لنا. بيد أن الرسم يقول. إنه ليس ترجمةً لشيء. لا للقصيدة، لا للواقع. ربما للمجاز الذي تتسلّح به القصيدة، ربما لخيالها. مؤكّد بالنسبة لي أنه خيالها الممتزج بخيال العين. لا بما تراه مباشرة.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن