"الفكاكة" السياسية من جديد

"الفكاكة" السياسية من جديد

27 أكتوبر 2017
+ الخط -
جاء مقال سابق لكاتب هذه السطور على "المواطن العبء" في مصر، في مناسبة الاحتفال الذي قام به المنقلب بمناسبة التعداد الجديد لمصر، وكان موضع العجب من ذلك أنه قد احتفل بهذا الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد، لكن هذا المشهد كان إيذانا بإطلاق خطاب إعلامي محموم عن الزيادة السكانية وعن الأعباء التي تتركها تلك الزيادة فتلتهم كل تنمية. وبدأت المعزوفة بالأسطوانة المشروخة المكرّرة عن المواطن العبء، وأن الإنجازات تتوه في ظل زيادة سكانية رهيبة، ويحاول بذلك أن يضرب عصفورين بحجر، فهو يتحدث عن إنجازات موهومة، ويحمل الزيادة السكانية كل فشل، بما يسمح له المزايدة في مسألة الإنجاز.
ترتبط بذلك مشاهد ثلاثة، تعبر عن تمهيد يتعلق بالسير على طريق الفكاكة، والمناهج التي تتعلق بما سماه صاحب هذا المقال "الكفتولوجي" طريقة حياة. يتعلق المشهد الأول بافتتاح فندق الماسة الذي سبقته أبواق تهليل وتطبيل عن عينة من الإنجاز في عاصمته الإدارية الجديدة. وبدا ذلك من خطاب يسير في الطريق نفسه، طريق الاستخفاف، فحينما تطرق إلى الحديث عن أنه قد تأتيه تقارير من هنا أو هناك، تتحدث عن أن ذلك ليس أولوية، فمن المؤسف أن يرد على ذلك فيقول "مفيش حاجة اسمها أولوية كله عندنا أولوية". هكذا قال في خطابه الذي اعتاد أن يتحدث به على طريقته الخاصة في أن لا يتحدث مع الناس أو الحضور في المواجهة، بل هو يجلس على كرسيه في المقدمة، والجميع خلفه، ويتحدث معهم معطيا إياهم ظهره. هذا هو أسلوبه المفضل في التواصل والاتصال، إعطاؤه ظهره للناس، والحديث معهم بلغة الإملاءات، ثم يبدو حديثه بعد ذلك مغموسا في طريقة "الفكاكة" التي ابتدعها.
ماذا يعني أن يقول هذا المنقلب إنه لا أولويات، وكل أمر وشأن عنده هو في مقام الأولوية؟، 
يعني ذلك تحطيم المنطق، ومصادرة كل القواعد التي تتعلق بالمقبول والمعقول. إنه في حقيقة الأمر لا يعترف بميزان للأولويات، إن حديثه هو الأولوية، وحينما ينعدم الميزان عند شخصٍ كهذا يكون هو الميزان، وكلامه وأقواله هي الموازين، أليس هو الذي سمّى نفسه طبيب الفلاسفة الذي يستمع له الجميع، تقطر الحكمة من مقاله. ولذلك تستمع إليه النخب والعظماء الذين يذكّرون الناس بضرورة الاستماع إليه، ويلتمسون الحكمة منه، والأمر هذا فهو إذا من يحدّد الأولوية ومعانيها.
إذا، ليس إطعام الفقراء وتوفير ضرورياتهم وكل الأمور التي تتعلق بمعاشهم من الأولوية عنده في شيء، وبناء فنادق فخمة وضخمة بكل هذه الأبهة و"الفشخرة" والرفاهية هي لديه أولوية. إنه يصادر أي سؤال وأي مساءلة وأي محاسبة. إنه فوق الحساب "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون". هكذا منطقه، إنه ذات المنطق الفرعوني "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". وهو لا ينتظر إلا قابلية من مستمعيه وتابعيه الذين أعطى لهم ظهره، وتحدث لهم بلغة الإملاءات "فاستخف قومه فأطاعوه". إنها حقيقة الفرعون، الاستبداد المقيم والتجاهل العظيم والاستخفاف بكل قيمة أو عظيم.
على طريقة "الكفتولوجي" والفكاكة، قد يسأله الناس عن التكلفة، فيرد قائلا: لا يهمكم أي تكلفة، إنه يبني في مدينته المفضلة على غرار المنطقة الخضراء، لا تحسب لأي شيء حساباً. الأمر لا يسأل فيه عن تكلفة وليس له حساب. مرة أخرى، إنه يهدم المنطق، وينقض كل معقول، حينما يتحدث بعضهم عن تكلفة باهظة. إنه لا يكترث، أما إن طلب الفقراء بعضاً من حقوقهم فما من مجيب، وينطق بكلمته المشهورة "مش قادر أديك"، بل أكثر من ذلك يرفع الدعم، ويرتفع سعر الدولار ويطلق عليهم غول الغلاء وسعار الأسعار، ثم يتحدث معهم عن ضرورة أن يصبروا. الشعب في كل مرة، كما في الزيادة السكانية، عبء. وعليه أن يتحمل كل عبء، هذا هو خياره، يغتصب كل سلطة، ويطغى فيها، ويتمتع بقرارات الإذلال، ولا يتحمل أي مسؤولية، ولا يتقبل على ذلك أي حساب أو سؤال، فما بالك بالمساءلة، إنه منطق "الفكاكة" و"الكفتولوجي".. هذه هي سياسته، منذ اغتصب السلطة، واعتلى كرسي الرئاسة، ويطالب برئاسة قادمة.
وننتقل إلى المشهد الثاني، مشهد احتفالي في حفل تكنولوجي. هذه المرة اخترعوا "روبوتاً" 
مزعوماً، يقوم بحركات وهو يضحك ويقهقه، لكن الأمر انكشف بعد ذلك "انكشف المستور"، بعد ان فضحه بعض من الشباب. لم يكن "الروبوت" سوى جهاز يُشترى من موقع الأمازون بمبلغ لا يتعدى 1200 دولار، موه هؤلاء على صورته، ولكن المستور انكشف، ألا يذكرك ذلك بحالة احتيال ونصب كبرى، ارتكبها عبد العاطي برعاية عبد الفتاح السيسي بجهازه الرهيب الذي يفتك بكل مرض عضال، ويأتي بالشفاء بصباع الكفتة. إنها الحقيقة المرة "نحن لا نعيش عصر التكنولوجي، ولكن نعيش عصر الكفتولوجي". مشهد خطير لا يكتفي فيه المنقلب بمشروعاته الفنكوشية، ولكن صارت السياسة سيركا كبيرا يقوم فيه بأفعال الحواة والسحرة. وفي حقيقة الأمر، هي من أعمال النصب والاحتيال التي يعاقب عليها القانون. وللأسف، من يرتكبها يعتبر نفسه القانون، أو أنه فوق القانون وفوق الحساب.
ومن مشهد الاحتفال في فندق الماسة الذي هدم كل منطق في التفكير، واحتفال التكنولوجي الذي كشف عن احتيال كبير، إلى تلك اللعبة الكبرى في مشهد مصطنع ومصنوع، يطالب الناس بالتوقيع على استمارة. وعلى طريقة جماعة تمرد، اتخذت لها شعارا "عشان نبنيها"، من أجل ترشيحه لفترة رئاسية ثانية. مغتصب سلطة وانتخابات رئاسية هزلية وتوقيعات في عملية نصب واحتيال كبرى، الأمر يصل إلى استخفاف فرعون الكبير الذي يريد أن يستمر، ولكن بتوقيعات من الناس، حتى يبني البلاد وهو يهدمها، ويفرّط في مائها وغازها ومواردها، ويقتل أبناءها ويطارد الشرفاء، ويعتقل معارضيه، ويمارس استراتيجيته في التفزيع والترويع، وفي الإفقار والتجويع. ومع ذلك، يطلق الشعار "عشان نبنيها".. ما بال هذا المنقلب الخطير يستخف بعموم الناس، ويفعل الأفاعيل؟.. نعم "فاستخف قومه فأطاعوه".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".