لا تسخروا من "روس"

لا تسخروا من "روس"

21 يناير 2017

دكتور روس في مشهد من "فرندز" (19/2/2004/Getty)

+ الخط -
هل أطلق مسلسل كوميدي شرارة انهيار الحضارة الغربية؟ كان هذا عنوان مقال للكاتب الأميركي، ديفيد هوبكنز، نشره في مارس/ آذار الماضي، منتقداً تأثير مسلسل "فرندز" على أميركا. أحد المحاور الرئيسية للمسلسل كانت سخرية مجموعة الأصدقاء الدائمة من الدكتور روس جيلر، كلهم ظرفاء، ويهتمون بأمور لطيفة، بينما يتلقى روس وابلاً من الاستغراب والاستهزاء، كلما فتح فمه متحدثاً عن أي اهتمام جاد، حتى أنه يظهر كأنه أغبى الشخصيات.
يقول هوبكنز "عام 2004 هو الذي استسلمنا فيه وتقبلنا الغباء كقيمة". في ذلك العام عُرضت آخر حلقات المسلسل. وفي العام نفسه، انطلق موقع "فيسبوك"، وأعيد انتخاب جورج بوش الابن، وبدأ برنامج "أميريكان أيدول" عهداً من احتلال المركز الأول في المشاهدات ثماني سنوات، وأطلقت باريس هيلتون كتاب سيرتها الذاتية، وفاز ألبوم "الأميركي الأحمق" بجائزة غرامي كأفضل ألبوم للروك.
في ذلك العام، كان هوبكنز يعمل مدرساً، وكان يدرّب نادي الشطرنج في المدرسة، والذي كان أعضاؤه من الطلاب الأذكياء المتفوقين، والذين يتعرّضون لسخريةٍ ومضايقات قاسيةٍ من طلاب آخرين. كان يدافع عن طلابه بحماسٍ، لأنه يرى فيهم "روس" الذي يجب أن يدافع عنه ضد قيم الشعبوية والتسطيح. يقول هوبكنز: "حين أرى مؤخرة كيم كارديشيان في أعلى الصفحة الرئيسية لموقع سي إن إن يصيبني شعور بالرعب".
قلق شبيه عبر عنه كُتاب وأكاديميون غربيون آخرون. تبدو الظاهرة أوضح ما تكون في فروع العلوم النظرية التي يتراجع الالتحاق بها. مثلاً في جامعة ستانفورد المرموقة يعمل 45% من هيئة التدريس في العلوم الإنسانية، بينما تراجع الطلاب إلى 15% فقط. وشهدت جامعة هارفارد انخفاضاً في دارسي العلوم الإنسانية بنسبة 20% خلال العقد الماضي.
خضعت العلوم التطبيقية لقيم السوق. في عشية تكريمه بجائزة نوبل لعام 2013، قال عالم الفيزياء، بيتر هيجز، لصحيفة الغارديان البريطانية، إنه لو كان يعيش في المناخ الأكاديمي الحالي لما اكتشف نظريته المهمة "بوزون هيجز"، بل إنه لم يكن سينتج بما يكفي ليحتفظ بوظيفته أصلاً.
وحسب دراسةٍ أجرتها مجلة نيتشر، عن الباحثين الشباب، تزداد الأوضاع صعوبة، تلقت المجلة 300 رسالة سلبية من علماء ناشئين، يعانون من المنظومة العالمية الحالية التي يتم استنزاف جهد الباحث فيها بأنشطة أخرى، بالإضافة إلى اعتماد التمويل والوظائف، إلى حد كبير، على مدى جاذبية الاكتشاف العلمي، ثم على جهد الباحث في تسويقه.
وأظهر استطلاع "نيتشر" أن 38% فقط من وقت عمل الباحث يذهب إلى البحث العلمي، بينما يذهب الباقي إلى أنشطة أخرى، مثل واجبات المشرف وأنشطة التدريس التي تتطلبها الوظيفة الجامعية.
جانب آخر من الصورة هو سحر السوق الحالي. ستيف جوبز وإلون ماسك هما النموذج المثالي لدمج العلم بعالم الأعمال، ليدر الملايين والمليارات. لذلك، يتزايد عدد من يلتحقون بأقسام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي، وينتقلون سريعاً من البحث الأكاديمي إلى العمل في الشركات أو إنشاء شركات.
تقول طالبة تدرس التاريخ في ستانفورد لصحيفة نيويورك تايمز: "أعيش في سياتل التي يحيط بها أمازون وغوغل ومايكروسوفت.. أفضل ما في البرنامج الصيفي لستانفورد أنك لن تجد من يقول: هل تدرس العلوم الإنسانية؟ إذن، لن تحصل على وظيفة على الإطلاق".
تنشأ، في العالم الغربي، في مقابل هذه الإنذارات المبكرة حركة لمقاومة الخلل، هناك من يدافع عن "روس"، سواء بتوفير المليارات للمنح البحثية بمصادر حكومية أو من مؤسسات خيرية، أو بتوجهات مختلفة إعلامياً لنقل الاحترام والتقدير إلى العلماء، مثل التركيز على شخصياتٍ، كستيفن هوكنغ، عالم الفيزياء النظرية الذي تحوّل رمزاً عالمياً.
من المرعب التفكير بأوضاع العلم في بلادنا التي تتعرض للتأثيرات السلبية العالمية نفسها، بانتشار واسع لقيم الإعلام والسوق والشعوبية وغيرها، بالإضافة إلى وضعنا المتخلف علمياً بالفعل، وكذلك مآسينا الخاصة التاريخية والحالية. "روس" العربي غير موجود، وإذا كان موجوداً سيهاجر.

دلالات