متى تنجح في السعودية حملة إسقاط الولاية؟

متى تنجح في السعودية حملة إسقاط الولاية؟

08 سبتمبر 2016

مطالبة امرأة سعودية بعدم قيادتها السيارة بالرياض (22/6/2011/فرانس برس)

+ الخط -
انتقلت النسوية السعودية، أخيراً، إلى أكثر مطالبها جذريةً، وهو "إسقاط الولاية"، بعد ستة وعشرين عاماً من المواظبة الحكومية على رفض المطلب النسوي الأكثر بدائية: مجرد قيادة السيارة. يعكس هذا المشهد التمزّق الاجتماعي العمليّ الذي يكتنف نموذج حياة المرأة بين الجمود البيروقراطي والسياسي والديني، والحركية الطبيعية التي يفرضها التعليم والعمل والابتعاث والحرية التقنية والصعود العالمي للقضية النسوية، حيث يستحيل على الوعي النسوي أن يتماسّ أو ينخرط في هذه الخيارات، بلا نموّ وتطوّر. قيادة المرأة السيارة التي كانت مطلباً متطرّفاً اجتماعياً قبل ستة وعشرين عاماً، تجاوزها الوعي الاجتماعي عموماً (لا النسوي فقط)، وانتقل إلى عتباتٍ أعلى بكثير، فيما المنظومة السياسية (مشتملة على المؤسسة الدينية الرسمية)، هي من يعجز عن مواكبة النمو بشكل طبيعي، لأسبابٍ متعددة.
الاختلاف الأساس الذي يميز حملة "إسقاط الولاية" في سياق الخطاب النسوي السعودي، أن للحملة مطلباً وحيداً، لكنه يتميّز بجذريته الشديدة وتأثيره الكبير على الحياة اليومية للنساء، وخصوصاً الحياة اليومية للنساء في الأوضاع الاجتماعية الأسوأ. حتى سنواتٍ قريبة، كان منطق الخطاب النسوي مبنيّاً على المطالبات الجزئية (بطاقة الهوية الشخصية، قيادة السيارة، تولي المناصب الإدارية العليا، المشاركة في الانتخابات البلدية، منع زواج القاصرات)، وبغضّ النظر عن نتائج تلك الحملات الإعلامية، والعرائض الموقّعة المقدمة إلى الملك، التي كانت تنتهي غالباً بلا استجابةٍ، وبغض النظر أيضاً عن طريقة تبلور تلك المطالبات، وطبيعة اختياراتها التي كانت أحياناً تعكس هموماً لشريحة ضيقة للغاية من النساء (كالحملات الصحافية التي كانت تركز على صعوبة الإجراءات الحكومية التي تواجهها "سيدات الأعمال")، كان أيّ تعديلٍ طفيفٍ يمسّ المرأة يقابل باحتفاء نسويّ كبير، حتى عندما لا يكون المقصد منه تمكين المرأة، بل تصريف تراكمات الفشل التنمويّ، كما هو الحال عندما فرضت الحكومة تأنيث المحلات النسائية، لامتصاص الفائض الهائل من الخريجات الجامعيات العاطلات في وظائف بائعات التجزئة، وهي وظائف محدودة الأفق، مرهقة ومتواضعة الدخل، ولا علاقة لها بمهارات التعليم الجامعي.
كان الخطاب النسوي يتمسّك دائماً بمبدأ التركيز على المطالبات الجزئية، إما مفترضاً أن
بساطتها تجعلها أقرب إلى التحقّق (وهو ما تنفيه التجربة العملية)، أو لتأثير هموم النخبة النسوية على صياغة هذه المطالبات، لكن ما يميز الخطاب النسوي في حملة "إسقاط الولاية" أنه، ولأول مرة، يتجاوز مبدأ الجزئية إلى مطلبٍ كُليّ، يمتدّ تأثيره إلى حدودٍ وحالاتٍ، لا يمكن حصرها، ويتجاوز نقاش علاقة نظام معيّن، أو جهازٍ معيّن، بالمرأة إلى حدّ مواجهة المنطق المؤسس لموقف البيروقراطية الحكومية السعودية من المرأة، ويعرّف المشكلة سياسيةً بالدرجة الأولى، تخصّ الطريقة التي تشكّلت بها علاقة المرأة كمواطنة بالدولة، أكثر من أنها متعلقة بمكانة المرأة الاجتماعية أو داخل العائلة. إنه انتقالٌ من النزاع مع ولي الأمر حول حقّ معيّن إلى شطب وليّ الأمر كُلّية، وهو مطلبٌ، وإن كانت الاستجابة له عالية الصعوبة عملياً، إلا أنه من النوع الذي يصعب أيضاً مراوغته وتصريفه في اتجاهاتٍ أخرى، وهو تغيّر مهم في سياق تفكير النساء بأنفسهنّ.
لا توجد مفاهيم "الولاية" و"المحرم" و"القوامة" في السعودية بشكل استثنائي، فهي جزء من شبكة المفاهيم الإسلامية التي تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة، في تمثّلاتٍ متنوعة عبر المجتمعات المسلمة، لكن ما يميّز الحالة السعودية هو أولاً: امتداد هذه المفاهيم من مجالها الديني إلى المجال السياسيّ، خلال مرحلة تمأسس الأجهزة الحكومية، حيث أدّت الشراكة بين الديني والسياسي في السعودية إلى إسناد قطاعاتٍ كثيرة تمس شؤون المرأة إلى المؤسسة الدينية، كالقضاء والتعليم (بصفته مجالاً لتعلم المرأة ثم عملها)، ورعاية شروط الفصل بين الجنسين في باقي الأجهزة الحكومية التي أدت إلى تأسيس حيّز بيروقراطي، من الذكور أساساً، وغير مستعد ذهنياً ولا تنظيمياً ولا عملياً للتعامل مع المرأة مباشرة. و تتميز الحالة السعودية، ثانياً، بتعدّد مستويات "ولاية الأمر" وحضوره مفهوماً بنيوياً اجتماعياً، لا تشكل "ولاية أمر المرأة" من الرجل وداخل العائلة إلا مستواها الأدنى، أو "المايكرو" اجتماعياً، تحت مظلة "ولاية الأمر" العُليا في المستوى السياسي، والتي تتمثل في الإمامة وولاية أمر المسلمين كافة، حيث تتشابه الولايتان في كثير من خصائصهما، وأهمها الطاعة، وقدرة الوليّ على تمثيل التابعين له، من دون مراجعتهم.
تواجه حملة "إسقاط الولاية" المتواصلة منذ ثلاثة أشهر بشكلٍ أساسٍ بيروقراطية الحكومة
وأنظمتها، بما يفترضه ذلك من الحاجة إلى إصلاحٍ تشريعيّ عميق لعلاقة المواطِنة بالدولة، ومواجهةٍ مع المؤسسة الدينية التي ستهتمّ بحماية معاييرها ونفوذها التشريعي، ومواجهةٍ سياسية تخصّ مفهوم "وليّ الأمر" بمستوياته المتعددة. وعلى الأرجح، أن شيئاً عملياً لن يتغيّر في المدى المنظور، قياساً على موقف السياسيّ من الحملات السابقة من أجل مطالب أكثر بساطةً، وبناءً على الخطط الـمُعلنة للمرحلة المقبلة التي لا يبدو أنها معنيةٌ بتنفيذ مثل هذا الإصلاح، ولأنّ تغييراً من هذا النوع عندما يحدث يصاحب تغييراً اجتماعياً وسياسياً أشمل. على الأرجح أن الحملة ستتواصل فترة حتى تخبو، وستكون ناجحةً لو استطاعت، خلال ذلك، أن تؤسس خطاباً متماسكاً حول "إسقاط الولاية".
@Emanmag

avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع