فلافل الزرزور في سورية الأسد

فلافل الزرزور في سورية الأسد

18 سبتمبر 2016
+ الخط -

لا يمكن للسخرية أن تكون عادلةً، وتؤدي وظيفتها في الإمتاع والمؤانسة، إلا إذا سخر الكاتبُ، أو الراوي، من نفسه، أو بدأ بنفسه، قبل أن يباغت الآخرين بتهكماته ولسعاته الموجعة.

يبدأ صديقُنا الأديب سلام الكواكبي، المقيم في باريس، بنفسه، فيكتب أنه تعرّض لوعكة صحية، نُقل على إثرها إلى أحد مشافي باريس، وحين اهتمت به منظومة الإسعاف، وأوصله أحدُ أفرادها إلى قسم الطوارئ، وبدوره قسم الطوارئ اهتم به، وقدّم له عناية فائقة؛ ظن، وهو بين الوعي واللاوعي، أنهم يعرفونه. ثم تساءل: ولكن، مَنْ أنا حتى يعرفوني؟ وفكّر: ربما شاهدوني في التلفزة، أو رأوا صورتي في الصحف! وبعد حوار طويل مع نفسه، وجد أن الفكرة الأساسية بقيت غائبةً عن ساحة تفكيره، وهي أن المريض، بالنسبة لهؤلاء الفرنسيين، إنسان، وهذا كافٍ ليعامَلَ على أنه إنسان.

ذكّرتني هذه الحكايةُ بعَلَمٍ من أعلام الرواية والقصة القصيرة في سورية، هو الأديب الراحل فارس زرزور (1930- 2004) الذي كتب، مرّة، أنه توجه لمراجعة دائرة حكومية في دمشق، لإنجاز معاملةٍ إداريةٍ تخصّه، فوجد الشارعَ القريبَ من تلك الدائرة مغلقاً بسبب كثرة الناس الذين جاءوا، مثله، لإنجاز معاملاتهم، فاضطر، وهو متجاوز الستين من عمره، ويعاني من ضيق التنفس بسبب إفراطه في التدخين، أن ينخرط في لجّة هذا البنيان الآدمي المتراص، ويجدّف فيه بصعوبةٍ بالغة، حتى يصل إلى حيث المكان المخصّص لاستلام المعاملات الجديدة وتسليم المعاملات المنجزة لأصحابها. وهنالك وجد موظفاً يشبه جابي الضرائب العثماني (الشوباسي)، واقفاً في مكان مرتفع، لكي يتمكّن من التعالي على هؤلاء الناس، وزجرهم، وإفهامهم أن العيش في سورية الصمود والتصدّي، وفي ظل القيادة الحكيمة للرفيق حافظ الأسد، ليس أمراً مجانياً، فهو نوعٌ من العزّة، والعزّة لا تكون إلا مع قليل من الذل.

في هذه اللحظة غير التاريخية، وبينما كان بطل حكايتنا الرجلُ الستيني، الأسمر، النحيل، ‏مستبسلاً في توصيل إضبارته إلى كوة الاستلام، تَذَكَّرَ أنه صاحب رواية "حسن جبل" التي تُدَرَّسُ في كتب الثالث الثانوي العلمي والأدبي، ورواية "الحفاة وخفي حنين"، والمجموعة القصصية 42 راكباً ونصف، وحوالي خمسة عشر كتاباً مطبوعاً، عدا عن المقالات الصحفية الكثيرة، فقال للرجل: أنا فارس زرزور.

وقع الاسم في سمع الشوباسي موقع السحر، وعلى الفور بدأ يصرخ بالحاضرين أن اخرسوا، وقال لفارس، أهلاً أهلاً أهلاً، يا مرحباً بحبيبنا فارس زرزور، تفضل تفضل... ونزل من عليائه إلى الأسفل، وسلم عليه، وسحبه من يده نحو الداخل، وهناك أخذ منه المعاملة، وأعطى إيعازاً لمرؤوسيه أن ينجزوها قبل أن يرتدّ إليه طرفه، وأن يأتوه بها في المكتب، ريثما يكون هو مستمتعاً بتناول فنجان قهوة بسكر قليل مع الأستاذ فارس زرزور.

هنا، في هذه اللحظة التاريخية، أيقن فارس أن الأدب ما تزال له قيمة بين الناس، وحتى بين العامّة، وبالأخص الأدب الجماهيري الذي جاءت به الواقعية الاشتراكية، وأن ما يُقال عن التخلف والجهل والأمية لا يعدو كونه من ضروب المناوأة، وتثبيط الهمم والعزائم، والإصرار على مشاهدة النصف الفارغ من الكأس... وشرع ينظر بعين الرضا والامتنان إلى هذا الرجل الذي ظلمه قبل قليل، إذ صنفه مع البيروقراطية الطفيلية التي بدأت تكبح محاولات المجتمع السوري النهوض واللحاق بركب الأمم المتقدمة...

وأما الرجل، فكان يزدادُ تقرباً من فارس، وقال له:

- أستاذ فارس، بالنسبة لمعاملتك ستكون جاهزة حالاً، ولكن أنا، بالمقابل، لي عندك طلب، لا أشك في أنك ستلبيه. بصراحة أستاذ، أخي الأصغر تقدم بطلب للعمل في مؤسسة خاصة لصنع الفلافل، وقد عرفنا أن اسم مدير الشركة هو محمد خير زرزور، يعني أكيد ابن عمك، وأكيد حضرتك ستساعدنا في هذا الأمر. أليس كذلك استاذ؟!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...