يرقص، يقفز، يموت

يرقص، يقفز، يموت

02 يوليو 2016

(Getty)

+ الخط -

قبل أيام، أنهى شاب سوري حياته، بأن ألقى بنفسه من شرفةٍ عاليةٍ في أحد أحياء بيروت. حسن رباح فنان سوري من أصل فلسطيني، احترف الرقص باكراً. ومثل غيره من السوريين، اضطر إلى الخروج من سورية، كانت بيروت الأقرب، ليس مكاناً فقط، بل ربما كانت الأقرب نفسياً لراقصٍ شاب، من أي مدينةٍ عربيةٍ أخرى، فعلى الرغم من كل شيء، بقيت تحتمي بإرثها المديني الثقافي الحر، الذي يجعل من الفن فيها متناً حقيقيا لقاصديه، وليس هامشاً محارباً من جهات عديدة، كحال باقي العواصم العربية، على أنه ليس بالفن وحده يحيا اللاجئ السوري في بلاد العرب، هذه البلاد الشقيقة التي تحمّل اللاجئين مسؤولية كل ما يرتكبه سياسيوها من حماقاتٍ وخياناتٍ وتحارب وجودهم في أراضيها، كما لو كانوا يسحبون من هذه البلاد الشقيقة مخزون الخير فيها، تاركين لأهلها الفتات، فتضيّق عليهم حياتهم، وتصدر قوانين تعرقل إقاماتهم، وتلاحقهم وتعتقلهم، وترحّل بعضهم، وتمنع آخرين من دخول أراضيها مدى الحياة، بحيث يشعر السوري كما لو كان خارجاً عن كل المنطق البشري الطبيعي.

يصبح اليأس والعبث واللاجدوى والدوران في فراغٍ صغيرٍ ووحيد سياق حياة، وليس طفرة مزاجية، أو اكتئاباً عابراً وعارضاً، كما يحدث مع البشر عادة. حسن رباح مثل غيره من سوريين كثيرين، لم يعطه لبنان بعض الأمان الذي فقده في سورية، وهو اللاجئ مرتين، لأصله الفلسطيني ولمولده السوري. هو المتهم مرتين أيضاً في بلاد العرب، والممنوع من أي حق إنسانيٍّ في هذه البلاد التي تمنع الحقوق عن مواطنيها أصلاً، فما بالك باللاجئ الهارب من الموت في بلده؟

وككل حادثةٍ من هذا النوع، لم يوفر المعلقون العرب على وسائل التواصل الإجتماعي محاولات التحليل أو الإتهام للشاب الذي قرّر إنهاء حياته. وصفه بعضهم بالكفر، كون الأديان السماوية حرّمت الإنتحار. وصفه بعضهم بالجبن، فالإنتحار ضعف وهروب من مواجهة الواقع، وكأن هذا الواقع عادي، وليس عابراً لكل خيالات البشر. وصفه بعضهم بالشجاع، لأن من يُقدم على إنهاء حياته بهذه الطريقة يمتلك من الشجاعة ما يعجز عنه كثيرون. اتهمه بعضهم بتعاطي الحشيش وغيره، وفعل ما فعل بتأثير المواد المخدرة التي يتعاطاها. قلة فقط من فكّرت بشعور هذا الفنان الشاب الصغير الذي أنهى حياته بما يشبه الرقص: قفز عن شرفة منزله العالية، كما لو أنه يقفز على خشبة المسرح في رقصةٍ ما، لم يتحدّث أحد من أصدقائه عن رسالة وداعٍ تركها الشاب قبل انتحاره. ولكن، هل يحتاج السوري اليوم ليشرح للعالم لماذا قرّر، في لحظةٍ ما، أن ينهي حياته؟

السوري الذي يموت على مرأى ومسمع الجميع، الذي لم تبق طريقة للموت لم تجرّب به وعليه، الذي ينام على سرير الموت ويستيقظ وهو يرى الموت يسبقه إلى الصباح، هل يحتاج هذا السوري أن يشرح للعالم لماذا أراد أن ينهي حياته، وهو الفاقد كل شيء، الوطن والحاضر والمستقبل والأمان والحلم والجدوى ومعنى إنسانيته التي ينتهكها الجميع؟ قد يكون الراقص الشاب قد انتحر بهذه الطريقة لأسبابٍ محض شخصية، لكنه حتماً ما كان لينتحر، لو أن حياته تشبه حياة فنانين آخرين من جيله، يعيشون في بلادٍ تحترم آدميتهم، قبل أن تحترم مواهبهم. يشبه حسن السوريين جميعاً، السوريين ومن سبقهم إلى هذا المصير المرعب. يشبهنا كلنا، نحن الذين ننتحر كل على طريقته، بصمتٍ وبسريةٍ تامة، كي لا نكشف للآخرين حجم الفجوة التي حدثت في أرواحنا، هو فقط اختار الإنتحار علانيةً، كما لو كان يقدّم عرضاً أخيراً له، هل أراد أن يقنع العالم الذي يرى جحيم السوريين، من دون أن يرف له جفن، أن السوريين يموتون، وهم على قيد الحياة؟

ربما، وربما لا شيء من هذا خطر له، غير أن المؤكد أن سفالة العالم لن يوقفها أن يُلقي شابٌّ سوري، يمتهن عملاً لا ينحاز سوى للحرية، بنفسه من شرفة بيته العالية في عاصمةٍ عربية، منهياً بموته العالم بكامله، إذ لا شيء يوقف الإحساس بالعجز تجاه سفالة هذا العالم سوى الموت.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.