هل تتدخل تركيا برياً في سورية؟

هل تتدخل تركيا برياً في سورية؟

06 يونيو 2016

جندي تركي يراقب الحدود السورية في هاتاي (22 فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
أيقظ تمدّد الأكراد في سورية تجاه مدينة منبج الاستراتيجية ذات الأغلبية العربية المطلقة، (40 كم عن الحدود التركية) مجدداً قلق أنقرة الذي لم يهدأ أصلا منذ سنوات، مع تعقد الأمور يوماً بعد يوم على حدودها الشمالية.
يطمح الأكراد إلى إيجاد تواصل جغرافي بين منطقة عفرين وبقية المناطق السورية التي ينتشرون فيها، ما من شأنه إقامة حزام يفصل تركيا عن مدينة حلب، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، فهي ثاني كبرى المحافظات السورية، بالإضافة إلى مكانة خاصة تتمتع بها حلب في قلوب الأتراك وتاريخهم، وهو ما يشكل تهديداً واضحاً لأمن أنقرة القومي.
من غير المتوقع أن تقف أنقرة مكتوفة الأيدي حيال أي محاولةٍ لفصلها عن الشمال السوري، وترك السوريين العرب والتركمان يتعرّضون لعملية فرز ديموغرافي، كما من غير المتوقع تراجع أنقرة عن خطواتها لمنع مليشياتٍ كرديةٍ من إنشاء كيان عازل على حدودها، حيث تخشى تركيا نجاح جهود الأكراد إقامة منطقة حكم ذاتي في سورية على غرار المنطقة الكردية في شمالي العراق، وهو ما قد يحفز طموحات الأكراد بإقامة دولة انفصالية مماثلة في تركيا.
يسيطر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، حزب الاتحاد الديمقراطي الكرد (PYD) أبرز القوى الكردية السورية ومليشياته (YPG) القوتان اللتان تصفهما أنقرة بـالإرهابيتين على ثلاثة أرباع الحدود السورية مع تركيا، ويتابع استفزازه تركيا، بالتقدم إلى مناطق كان النظام السوري في السابق تعهد بمنع أي تحرك مسلح كردي فيها، أو السماح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة المسلحين الأكراد فيها، كما حدث في أوقاتٍ سابقة، ولو بشكل غير معلن، كما يحظى التنظيمان الكرديان حالياً بدعم أميركي روسي، بسبب تصديهما لمسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وفي تحركٍ اعتبره المراقبون استفزازياً ليس فقط لأنقرة، وإنما للعرب السوريين، المكون الأساسي لسكان سورية، حيث عمدت مليشات YPG الكردية إلى تغيير أسماء مناطق وبلدات من العربية إلى الكردية في المناطق التي تسيطر عليها في سورية، استكمالاً لمشروعها. وأطلقت اسم "سيروك أبو" على مطار منغ العسكري، والذي يعني "القائد الأب"، نسبة إلى عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني، وبات اسم "أرباد" يطلق حالياً على بلدة تل رفعت السورية، والتي يقطنها مكون سورية الرئيسي العرب بشكل خالص، بالإضافة إلى إطلاق أسماء جديدة على 20 منطقة.
يدور الحديث أن الأكراد في سورية يشكلون القومية الثانية، وقد يكون هذا كلام حق يُراد به
باطل، لإسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سورية، من دون الأخذ بالاعتبار فوارق كبيرة بين الحالتين، وهي أنهم في سورية لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمال العراق، ديموغرافياً وجغرافياً، حيث تفيد مصادر كثيرة بأن نسبتهم في سورية لا تصل إلى 10%، وقد تكون أقل بقليل أو أكثر بقليل، بالنظر إلى خريطة التوزع الكردي السوري، الجغرافي والديموغرافي، ولا تمتلك أي تواصل جغرافي بين المناطق الرئيسية التي تقطنها (القامشلي - عين العرب - عفرين)، بالإضافة إلى أنه حتى المناطق التي هي فيها أكثرية، لا تشكل أغلبية مطلقة، على عكس المكوّن العربي الرئيسي، وهذا يفسّر التحرك السريع والمفاجئ، في الآونة الاخيرة، لمليشياتٍ كردية بدعم روسي تارة، وأميركي تارة أخرى، في المناطق غرب الفرات وفي محيط مدينة حلب، استعدادًا لسيناريو كهذا معد مسبقًا، لتحقيق عمق وامتداد جغرافي، وليست معركة منبج هذه الأيام إلا استمراراً في هذه السيناريو.
يدرك العالم أن لتركيا وضعاً خاصاً، طوال سنوات الثورة السورية، بسبب عدم رغبتها في مهاجمة دول مجاورة، فربما يحدث رد فعل انتقامي، كما أنها لا تريد المخاطرة بأي تحركٍ خارج الحدود، في الوقت الذي تخوض فيه الدولة التركية حرباً داخل أراضيها ضد من تسميهم إرهابيي حزب العمال الكردستاني، وحرباً أخرى خارج الحدود ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
تعيش تركيا، هذه الأيام، أشد فترة في تاريخها الحديث حرجاً، فالأوضاع الدولية والإقليمية تتطوّر بشكل كبير وسريع ضد مصالح أنقرة. ولأول مرة في التاريخ، تكون روسيا جارة لتركيا من الشمال والجنوب، كما أن دور الولايات المتحدة في المنطقة بات أقرب إلى اللامبالي في مقابل التحرّك الروسي المكثف. لكن الواضح من تحركات تركيا، أخيراً، محاولتها تجاوز بعض الأخطاء التي وقعت فيها سابقاً في تعاملها مع الملف السوري، من خلال توسيع تعاونها مع الأطراف العربية المتضررة الحقيقية من خسارة سورية، الأمر الذي يعطيها غطاءً عربياً إسلامياً، ناهيك عن مشاركة بعض تلك الدول، وبشكل مباشر في أي تحرك عسكري تركي مرتقب، بالإضافة إلى إسراعها بالموافقة على شروط إسرائيل لعودة التطبيع، ما يؤمن لأنقرة غطاءً دولياً، وتوازناً أمام الحلف الإيراني الروسي، كما أن تركيا تضع حلف الناتو على المحك، وربما لأول مرة في تاريخه، بتفعيل المادة الرابعة، وهي الدفاع عن دولة عضو في الحلف، في حال تعرّضها لهجوم عسكري، وأهمية اللحظة أن كل دول "الناتو"، ولا سيما في أوروبا الشرقية التي تعيش هاجس القلق من روسيا، بعد تمزيق الأخيرة أوكرانيا، كلها تترقب موقف "الناتو" حيال أي هجوم تتعرّض له تركيا. وأي تدخل بري مرتقب سيكون لتنظيم الوضع في مناطق سورية معينة، على امل أن تحصل بعدها مفاوضات جدية مباشرة، مثمرة بين الأطراف الفعالة على الأرض السورية.
وحقيقة الوضع المعقد تجعل من الصعب على أحد تحديد إلى أين يمكن أن تتجه الأمور، فهي، في لحظةٍ ما، يمكن أن تنقلب رأساً على عقب، مثل المفاجأة وتغيير الموازين الذي حصل بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية التي قالت إنها انتهكت أجواءها أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ويجب عدم استبعاد إمكانية تدخل تركي عسكري بري إلى مناطق محدّدة في الشمال السوري، في حال لم يتم وقف جماح تركيا، وذلك عبر الاغراءات بالمنافع الاقتصادية، وخطوط إمدادات الطاقة، ومشاريع إعادة الإعمار. وهنا، علينا عدم إغفال العامل الإسرائيلي، فوسط الفوضى التي تعيشها المنطقة، وحدها تل أبيب تعرف ما تريد، وترفض ما لا تريد، وتملك القرار في الحالين، وأي تغيير في الخارطة الجيوسياسية، لا بد أن يحظى بضوء أخضر إسرائيلي. وهنا، لا بد من الأخذ بالاعتبار موافقة تركيا على جميع شروط عودة التطبيع مع إسرائيل. فالأخيرة هي الوحيدة القادرة على إيقاف روسيا عند حدها في سورية، لأنها اليوم باتت حليفاً صامتاً لروسيا في سورية، مثل إيران وحزب الله، وهذا لا يناسب تل أبيب، ويجب ألا ننسى كيف سارعت موسكو ونسّقت، بشكل معلن وواضح، مع تل أبيب، قبل دخولها سورية، وضربت عرض الحائط انتهاكها أجواء دول مجاورة أخرى.
لكن، من غير المستبعد أيضا أن تجد دولة إقليمية كتركيا نفسها مضطرةً، في نهاية المطاف، للقبول بأي طرح فيدرالي أو تقسيمي، إذا ما جاء نتيجة اتفاق روسي - أميركي، مع مراعاة حساسيتها في بعض النقاط، كإبعاد الانفصاليين الأكراد عن مناطق معينة، هي تحدّدها، مثل حصرهم في المثلث السوري التركي العراقي. وهنا علينا عدم إغفال أنه، في الماضي القريب، كانت إقامة كيان كردي شمال العراق خطاً أحمر للأمن القومي التركي، إلا أن إقليم شمال العراق تحول، لاحقاً، إلى أقرب حليف في المنطقة لأنقرة.
يبقى القول إنه صحيح أن تركيا تأخرت في التدخل بمفردها في سورية، إلا أنه ما زال هناك متسع من الوقت للتدخل، على الرغم من أنه ضيق. ولكن، في إطار عربي إسلامي ودولي. وفي هذه الظروف، ينفع التذكير بمقولة للرئيس التركي الأسبق، سليمان ديميريل،: في السياسة التركية احتمال 1% يعادل احتمال 99%.