سيمفونية "القتل النبيل"

سيمفونية "القتل النبيل"

21 مايو 2016

كونشيرتو روسية على مسرح في تدمر (5 مايو/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
بلى، "ليس الحب فقط" من ينتصر في عرف سيد الكرملين الحديدي. لذلك، كان حريصاً على أن يرسل صديقه عازف التشيلو الروسي، سيرجي رولدجين، ليعزف مقطوعة شيدرين "ليس الحب فقط". وهي، على الرغم من دلالاتها الواضحة، لم تكن المقطوعة الموسيقية الوحيدة التي عزفها الروس في مسرح تدمر الأثري قبل أيام، فقد كانت طائرات السوخوي الروسية تنجز معزوفةً أخرى في مخيم الكمونة في ريف إدلب، حيث الأصوات النشاز للقتلى لا تروق للنظارة وجمهور المستمعين من هواة الموسيقى الكلاسيكية والتعدّد الاجتماعي والأقليات والحسابات البنكية في شركات ما وراء البحار.
يعشق الطغاة والقتلة المهووسون بالعظمة الموسيقى، كما يحبها العشاق والمشرّدون والفقراء. تلهب خيال الطاغية، كما تلهبه المارشات الحماسية السائرة نحو النصر والمجد والأبدية. إنها الإيقاعات الموحّدة التي تُحدث الهارموني والريتم الواحد، والشعب الواحد بالتالي. هل هناك ما هو أكثر أهميةً من جعل الجميع يردّدون ويستمعون لإيقاع واحد، لتحقيق الانسجام والانضباط والحركة الواحدة؟
وهل هناك، بالنسبة للقتلة الجماعيين، ما هو أكثر روعةً وجلالاً من دوي ارتطام صاروخ بهدفه، ذلك الصوت الذي يشبه العلامات الصاعدة في "ضربات القدر" لبيتهوفن، على حد تعبير الطيار الأميركي الذي قصف ملجأ العامرية في العراق.
أحبَّ زعيم الرايخ الثالث سماع فاغنر، حلم بأمبراطوريته الجرمانية تمتد وتكبر على إيقاع السيمفونيات البطولية التي ابتدعها "العرق الجرماني الصافي"، بينما كان صديقه الإيطالي، موسوليني، يبتهج بمشهد شباب الفاشية الإيطالي يخبط أقدامه في روما على أنغام "الجيوفينزيا"، حالماً ببسط سيطرة دولة الدوتشي على أوروبا بأكملها، قبل أن ينتهي به المطاف معلقاً على حبل مشنقةٍ، يشبه علامة موسيقية مقلوبة.
لا يُخالف سيد الكرملين أشباهه وأسلافه من الطغاة والقتلة الجماعيين، غير أنه، وإن لم يكن مثل لينين مفجراً لثورة عظمى غيرت وجه التاريخ، ولا كستالين محارباً للنازية والفاشية، يمتلك الروح الدموية نفسها لقائد ثورة أكتوبر، حينما نصب مشانق أعدائه على أنغام "الأباسيوناتا"، وذات الدم البارد لقاتلٍ من عيار ستالين الذي أرسل ملايين الروس إلى سجن الغولاغ في سيبريا، بينما كان يستمع إلى أنشودة ليونيدة شانين "شكراً لك أيها القائد العظيم".
يُطلب من الموسيقى، هنا، حسب الخلطة البوتينية الأسدية، أن تلعب دوراً تمييزياً بالمعنى الحضاري الهنتغتوني، أي بين "الوحوش البرابرة" الذين يكرهون الموسيقى، ويحطمون أجهزة الراديو والتلفاز، ويحرقون أشرطة الموسيقى، وبين "المتحضرين" ذوي الياقات البيضاء. هؤلاء طرفا المعادلة المطروحة للفرجة .."قتل مع الموسيقى وقتل بدون موسيقى".
بين فيديوهات داعش المملوءة بالرعب والسكاكين وحفلات بوتين الموسيقية التي عزفت فيها فرقة مسرح مارينسكي مقطوعاتٍ كلاسيكية عديدة، على إيقاع حرق صواريخ طيرانه أرياف سورية ومدنها، ليس الفارق الوحيد بين أولئك القتلة الخارجين من التاريخ والقتلة القادمين على صهوات "المدنية " و"الحداثة" هو الإيقاع الواحد عند الأولين، والمتعدد عند الآخرين فحسب، بل في قدرة "داعش" على إظهار صور ضحاياها ضمن فرجة القتل المعروضة بصرياً وسمعياً، بحيث تتماهي مع مضمونها ومعلنها الصريح.. الانسجام، هنا، بين الشكل المعلن والسياق المضمر، لتشكل تالياً غرابةً مثيرةً في وحشيتها، بينما يختفي وجه ضحايا الأسد –بوتين تحت غطاء سميك من الادعاء والتقنية والنمذجة.
"نحن الأسد وبوتين مثلكم بيضٌ وحضاريون، ونحب الموسيقى والأقليات، ونكره المتشددين-نحن النموذج. لا سكاكين لدينا للقتل، لسنا بدائيين، انظروا، نحن نعزف الموسيقى". لا غرابة، إذن، أن ينجذب الغرب الشغوف بالغرابة والإكزوتيك إلى ما يفعله "داعش"، الخارج عن النموذج والإيقاع، بينما لا يستحق "النموذجيون المتسقون حسب الإيقاع العالمي" أي لوم يذكر.
عندما سئل زعيم المافيا الصقلي، توماس لوكيزي، عن سر استماعه سيمفونيات باخ وبيتهوفن، عندما كان يصفّي خصومه قال: "وحدها الموسيقا تجعل القتل عملاً نبيلاً". من قال إن الأسد وبوتين ليسا كذلك.
avata
avata
جمال مامو
جمال مامو