على هامش أزمة الصحافيين في مصر

على هامش أزمة الصحافيين في مصر

12 مايو 2016
+ الخط -
اندلعت أزمة بين نقابة الصحافيين ووزارة الداخلية في مصر، إثر اقتحام الأمن مقرّ النقابة، لأول مرّة في تاريخها منذ إنشائها عام 1941، للقبض على صحافييْن على خلفية مظاهرات 25 أبريل/ نيسان الماضي، وهي الأزمة الأحدث في سلسلة أزمات وقعت، أخيراً، كانت وزارة الداخلية طرفاً فيها.
ومن دون الإغراق في تفاصيل الواقعة، فإن هذا الاقتحام غير المسبوق يحمل دلالات رمزية بشأن نظرة السلطة في مصر للصحافة، ويستدعي ذكرياتٍ عديدة حول أزمات مماثلة، بل أكثر حدّة، وقعت في العقود الماضية، اشتبكت في أثنائها صُحف معارِضة مع رؤوس أمنية وسياسية كبيرة من نظام حسني مبارك، يمكن وصفها ب"الصقور"، لكن السلطة لم ترتكب مثل هذه الخطوة الخطيرة التي تحمل دلالاتٍ تصعيدية كبيرة.
ولا يمكن حصر ما حدث في مجرّد واقعةٍ، تسببّت في اندلاع أزمة، من دون النظر إلى السياق الموضوعي العام الذي جاءت فيه، حلقة في متوالية قمعية تصاعدية.
نشأت دولة يوليو 1952 بنزعة سلطوية استبدادية تجاه المجتمع، كان القمع سمتاً أساسياً من سماتها. وعلى اختلاف العهود، ظلّ النظام واحداً في جوهره، على الرغم من اختلاف مظهره، بيْد أنه، منذ عهد أنور السادات، كانت السلطة تسمح لقوى المعارضة بهامشٍ للحركة، كان يضيق ويتسع، كما كانت تسمح بسقفٍ للحرية كان يرتفع وينخفض بين حين وآخر، حسب معطيات المشهد ومتغيراته.
وفي عهد مبارك، مَارَسَ "الحرس القديم" من نظامه القمع بقدر من "الاحترافية"، والتصعيد المحسوب عبر إدارة اللعبة مع قوى المعارضة، وفق "قواعد وضوابط" معينة، حفظت للآخرين أقدارهم إلى حدٍ ما. كان القمع والبطش في أثنائها يتوقّف عند "حدودٍ" لا يمكن تجاوزها، وفقاً لأعراف و"تقاليد" مستقرّة، بما يسمح، في النهاية، بقدرٍ من "التنفيس" يُجمّل وجه النظام.
ثمّ جاء "الحرس الجديد" من "صبية" مشروع "التوريث" الذين يعانون انفصالاً نفسياً وذهنياً عن الواقع المصري، ومارسوا اللعبة بقدرٍ كبير من "الغشم" الذي حمل انتقاصاً وإهداراً لأقدار الآخرين، حيث ضيّقوا كثيراً من الهامش الذي كان متاحاً أكثر من ذي قبل، كما غيّروا من "قواعد" القمع و"الحدود" التي كان يقف عندها، ولا يتجاوزها، حتى جاء برلمان 2010 "منزوع المعارضة"، ما كان يعني مصادرة هامش "التنفيس" كلياً، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى وقوع زلزال 25 يناير 2011.
ومن المفترض أن يكون "الدرس" الذي حملته ثورة 25 يناير أن القمع وتضييق مساحات الحركة وهامش الحريات يصبّ في صالح الاحتقان الذي قد يؤدي إلى الانفجار. بيْد أن جناحاً نافذاً داخل مؤسسات الدولة المصرية تبنى رأياً في الاتجاه العكسي، مفاده بأن "تَساهُل" مبارك مع المعارضين والحقوقيين، ومنحه سقفاً عالياً للتعبير في الصحف والفضائيات، وعدم استخدامه الدرجة الكافية من القمع والبطش هو الذي أدّى إلى "25 يناير"، وأن الحلّ الأمثل والوحيد لمنع تكرار مشهد يناير هو في استخدام القبضة الحديدية، وصولاً إلى مصادرة المجال العام بشكل شبه كامل بذريعة الحفاظ على "هيبة الدولة" (!). وهو فهمٌ مغلوطٌ إجمالاً وتفصيلاً، فتقول القاعدة إن اتساع هامش التعبير والحريات في المجال العام يؤدي إلى امتصاص طاقات الاحتقان السلبية، وإغلاق النوافذ أمام ممارسة العنف، والعكس صحيح، فمصادرة المجال العام وتضييق هامش الحريات المتاح يؤدي إلى تراكم الاحتقان وزيادة مساحات التوتر.
أمّا عن "هيبة الدولة"، فيجب هنا تحرير المصطلح وفقاً لمفاهيم العلوم السياسية، من دون الأمنية التي تقصره على احتكار ممارسة العنف الشرعي لحفظ الأمن، فهيبة الدولة تتحقق بوقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف وتطبيق القانون على الجميع، من دون تمييز أو محاباة، فليست الدولة كياناً مصمتاً، وإنّما هي مجموعة من المؤسسات التي يجب أن تكون العلاقة فيما بينها ذات طبيعة نِدّية، وليست إذعانية، قائمة على الاحترام المُتبادل، وفقاً للتقاليد الدستورية والقانونية، والأعراف المؤسسية، بما يحقق مبدأً دستورياً أصيلاً، هو الفصل بين السلطات.
لا تعود عقارب الساعة إلى الوراء، ولن يحقق الاقتصار على القبضة الأمنية الاستقرار كما يتوهّم بعضهم، وإنّما يسبب بيئة متوترة ومتصارعة، يسودها الاحتقان والاضطراب، فتحقيق الاستقرار يحتاج قدراً من العقل والهدوء، يسمح بحلولٍ سياسيةٍ توافقيةٍ، بعيداً عن التصرّفات العصبية، والإصرار على الحلول الصفرية.