محراث علي منصور

محراث علي منصور

24 نوفمبر 2016

(شوقي شمعون)

+ الخط -
(جمل وكلب وحمارة شكلتهم أصابعنا من الطين، وتركناهم هناك تحت وطأة الشمس. آه يا أصابع الصبي التي كانت "تنغبش" في الجدار، وتشد قشّة "التبن" من الطوب اللين، لست وحدي الآن أمسح الدمعة التي ترجو: لا تضيعي أيتها القرية. المحراث أيضاً، هناك في الركن، يجترّ ذكرياته مع أسراب أبو قرادان). كان لأبي قريب، من بعيد، اسمه حسن، وكان لحسن ولد اسمه شحبر، وكان قصيرا جداً من دون أن يكون قزماً، وكانت له بقرتان ومحراث ومركوبان، وكان عزيز النفس جداً، ويرد العيبة بعزة وأنفة بكلام واعر وثقيل، وكأنه من فم رجلٍ طويل، ويملك العافية والقدرة في الرد، مات قبل أبي بسنوات، وحينما جاؤوا والدي، كي يشاركهم بناء مقبرة للأقارب، ضحك وقال لهم بعد يومين: (لا يا عم، وإيه اللي يلمني، في الآخر، على شحبر ومحراته ومراكيبه)، وكأن شحبر ينتظره هناك بالمحراث والبقرتين، وكأن أبو قردان يحوم حول ديدان المقابر، كي ينقيها من الذنوب، وكأن الذكريات نتقاسمها، ضحكاً وسماحة، ما بين الحياة والموت.
في وجه علي منصور فلاح بريء من ذنوب الحقل، وفي أصابعه معادلات الصيدلة، ركن معادلات الصيدلة للعقل، وأخلص بالقلب للشعر، وشقّ بهدوء، بمحراثه صباحاً في طمي الشعر طريقا عزيزا، من دون الخوض في الصعاب، ومن دون الاقتراب من الأرض المالحة أو الأكاذيب. علي منصور يشبه شعره تماما، ويشبه محراثه، ويشبه ذكرياته أيضاً.
البحث عن الشعر، خارج مملكة الشعر الشائعة والممهدة، فقد تجده في قرية صغيرة تابعة (لشبين القناطر) أو قرية من قرى (سمالوط) بالقرب من محراث قديم، مركون تحت هول العناكب، في بيت جد مات فقيرا، ولم نزر البيت من سنوات، ولا حتى زرنا مقبرته، أو حتى جرفتها السيول قبل بناء السد أو بعده، ولا حتى فكرنا في تقسيم الميراث، لأنه مضحكٌ والبيت صغير، وهبط نصفه الأسفل تحت سطح الأرض، حتى طاولت الأرض نصف شباكه، وأكثرنا سافر أو مشغول بالسفر، كي نبتعد عن هذه الكوابيس التي صارت تشبه وطناً، أو أن الوطن هو الذي يشبهها ويتفوق عليها أحيانا.
هل لذلك أحببت محراث علي منصور، أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير؟
من الموت ورهبته وقبره، قبر العمل في القرى، أو قبر المحراث في البيت القديم، ننتقل مع علي منصور ومحراثه إلى الحياة وتوالدها وشغفها الهادئ المتناغم، حيث يقول في قصيدته نفسها (استيقظ.. أيها المحراث): (... تحويمات النحل على عناقيد العنب وحي مستمر، ذيل الحمارة لا يتعب من مطاردة الذباب، مغمض العينين يلقم ضرع أمه وهي تنقل قدميها في السبخ، شخبة اللبن في الإناء من بين فرث ودم، كشفرة الموسى تترك حواف أوراق عيدان الذرة آثارها في الظهيرة على الرقبة، صهد الظهيرة واقف عند أبواب شجرة الجميز العجوز، زبد الماء المتدفق من فوهة "البدّالة" على الركبتين العاريتين يقص على الحصى في القاع حياة التعب).
في النهاية، هذه روح شاعر، تألمت وتعبت ورأت، ولم تتسكع وراء المعاني وغموضها، لأن المعاني كانت شاخصة أمام عينها، كذلك الحصى الذي تقص عليه الروح حياة تعبها.
علي منصور، أعادني بشفافية بسيطة وبكلمات بسيطات، لحصى المجاري تحت ماء "البدّالة" في سويعات التعب، والعرق منا يسيل، ولكن زغاريد عيدان الشامي أو القطن، وهو يتمايل تحت ألوان زهراته ولوزه، فرحا بقدوم الماء تحت العيدان، كان ينسينا الوقت والشمس والتعب، وحدها الحصوات كانت تداعب بطون أقدامنا، مع كل ميلة مع "البدالة"، حتى ينادي المنادي من آخر الزرع عالياً، بعدما ترقص العيدان، وتهتز فوق الماء والنسيم: (كفاية يا بطل.. كتر ألف خيرك)، ونحن نقول لعلي منصور الشاعر المبتعد كاملا عن كل مظاهر التتويج والجوائز والأكاذيب والمهرجانات المضللة: (كتر ألف خيرك يا علي، على أنك حملت كل هذه الأحمال على قلبك الطيب والبسيط حتى تدفقت، بعد الستين من عمرك، كالماء الزلال على الحصى).

دلالات