عودة دولة المجبى في تونس

عودة دولة المجبى في تونس

31 أكتوبر 2016

احتجاج في العاصمة التونسية على مشروع قانون الموازنة (15/10/2016/الأناضول)

+ الخط -
دولة المجبى نمط قديم عرفته البلاد التونسية زمن حكم محمد الصادق باي، بين سنة 1855 و1882، سمته الرئيسية إجبار الرعايا على دفع الأموال للدولة عنوة وبالقوة، سواء كانوا قادرين على ذلك أم عاجزين، ومن لا يدفع، فإن المحلّة، وهي ثكنة عسكرية متنقلّة، يقودها باي الأمحال، تجوب البلاد في رحلتين جنوباً وشمالاً، إحداهما في الشتاء والثانية في الصيف، بحسب موسم المحاصيل الزراعية، تنزع الأملاك أو تحتجز الأفراد في سجنها إلى أن يتمكّن ذووهم من الدفع. أطلق المؤرخون هذه التسمية على الدولة التونسية سنة 1864، عندما قرّرت حكومة الباي مضاعفة ضريبة الإعانة من 36 إلى 72 ريالا، لتضاف إلى ضريبتي العشر والقانون ومكوس ولزمات أخرى كثيرة، ما أدى إلى انتفاضة القبائل التي قادها آنذاك علي بن غذاهم الذي لُقّب باي الشعب. أوجه الشبه مع ما يجري في تونس اليوم كثيرة، من أبرزها عجز الدولة على مقاومة الفاسدين وناهبي الأموال العمومية، من أمثال مصطفى خزندار (1817-1878)، رئيس الحكومة التونسية 36 سنة، سرق الخزينة التونسية برمّتها وأودعها في البنوك الفرنسية والأوروبية، بعد أن رهن البلاد مقابل 125 مليون فرنك فرنسي من القروض وفوائض الديون، ذهب جلّها إلى حسابه الخاص، ما أفضى إلى وضع المالية التونسية تحت تصرف لجنة مالية دولية، تسمى الكمسيون المالي، مكونة من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وذلك قبل احتلال البلد بكامله ووضعه تحت الحماية الفرنسية، وكذلك من أمثال رجال أعمال، ونساء ورجال من العائلة الحاكمة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذي استمرّ على رأس الدولة ربع قرن، وقد نهب هؤلاء أكثر من 12 مليار دينار من البنوك العمومية والخاصة بدون ضمانات، بشهادة محافظ البنك المركزي التونسي سنة 2014، رافضين إرجاعها، وهرّبوا ما يزيد عن 33 مليار دولار إلى خارج البلاد، وفق تقرير معهد بحوث الاقتصاد السياسي في جامعة ماساشوسوتس الأميركية لسنة 2012، والاستعاضة عن ذلك بإثقال كاهل المواطن بالضرائب والإجراءات الجبائية المجحفة.
يتجلى هذا الأمر اليوم في قانون المالية لسنة 2017، الذي تقدمت به الحكومة التونسية إلى مجلس نواب الشعب، لمناقشته والمصادقة عليه قبل يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وفق المنصوص عليه دستوريا. حدّد هذا القانون ميزانية الدولة التونسية للسنة المقبلة 32 مليارا و275 ألف دينار، أي ما يناهز 16 مليار دولار، خُصص منها عشرون مليارا ومائتان وأربعون ألف دينار، لنفقات التأجير، ودعم المواد الأساسية، والمحروقات، والنقل، والحسابات الخاصة للخزينة، والطوارئ، وستة مليارات ومائتان وعشرة آلاف دينار لنفقات التنمية، التي تتضمن الاستثمار والمشاريع الكبرى للدولة، وخمسة مليارات و825 ألف دينار لتسديد ديون
الدولة التونسية التي تتفاقم كل سنة بسبب انحدار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، من دون أن تلقى هذه العملة أي حمايةٍ من الدولة التونسية، لا سيما بعد صدور القانون المنظم للبنك المركزي التونسي الذي مكّن هذه المؤسسة، بعد الاستجابة لإملاءات أجنبية، من الاستقلالية في علاقتها بالسياسة المالية للحكومة، ومنعها من التدخل لصالح العملة الوطنية في حال اقتضى الأمر ذلك. وقد أدى هذا التمشّي إلى بلوغ حجم المديونية التونسية 64% من الناتج الوطني الخام، من دون احتساب المليار يورو الذي ستقترضه الدولة التونسية لتمويل العجز في موازنة 2017، وسيبلغ وفق التقديرات الأولية ستة مليارات دينار. وإن ارتفعت هذه الموازنة بنسبة 11,1% مقارنة بسنة 2016، فإنها تبقى محدودة، وربما تحتلّ المراتب الدنيا في موازنات الدول، حتى أنها لا ترتقي إلى مستوى موازنة إحدى الجامعات المصنفّة عالمياً مثل جامعة هارفارد الأميركية التي تصل موازنتها السنوية إلى 30 مليار دولار، أي ما يفوق 60 مليار دينار تونسي، أي ضعف موازنة الدولة التونسية.
لا يعكس قانون المالية الجديد تصوراً تنموياً مغايراً لما هو سائد، أو استراتيجية تنموية للدولة، تعقبها سياسات اقتصادية ومالية راديكالية، أو حتى إصلاحية لإنقاذ المالية العمومية والاقتصاد الوطني والدولة برمتها من التلاشي والانهيار، أو تمكن من إخراج البلاد من أزمتها الهيكلية التي تردّت فيها، أو تساعد على تحقيق نسبة النمو المقدّرة بـ 2,5% التي أعلنت الحكومة إمكانية الوصول إليها سنة 2017، على الرغم من ضآلتها، إلا إذا استثنينا بعض التصريحات المبهمة، لمسؤولين في المالية التونسية، يعتبرون أن قانون المالية يعكس نموذجا تنمويا جديدا، ملامحه "إحداث خط تمويل باعتماد قدره 250 مليون دينار للتشجيع على بعث المشاريع الصغرى ودعم المبادرة الخاصة"، و"التخفيض في نسبة الضريبة على الشركات إلى 15% بدل 25% بالنسبة للشركات التي تقبل أن تدرج أسهمها بالبورصة". واكتفى القانون بحزمة من السياسات الاجتماعية التقشفية، والإجراءات الضريبية الزجرية لتعبئة موارد الدولة المالية، شرعت الحكومة في انتهاجها منذ السنة المنقضية. ومن أبرز المظاهر التقشفية في المستوى الاجتماعي، إيقاف الانتداب والكف عن تشغيل الشباب في الوظيفة العمومية والقطاع العام، والاقتصار على عدد قليل من خريجي مدارس التكوين الأمنية والعسكرية، وعدم تعويض المحالين على التقاعد، وعدم سدّ الشغورات الناتجة عن الوفاة أو الاستقالة أو الإلحاق بوكالة التعاون الفني للعمل في الخارج، وعدم نقل تراخيص الانتداب المتبقية من السنوات الفارطة باستثناء سنة 2016 إلى سنة 2017، وتجميد الأجور والترقيات في الوظيفة، كي لا تنعكس عنها نفقات إضافية.
وفي مستوى الإجراءات الضريبية، حافظ القانون على الضريبة المباشرة على الدخل، والضريبة على الشركات. وقد أردفت الحكومة هذا الصنف الضريبي بعدة أصنافٍ أخرى جديدة، مثل توسيع دائرة الأداء على القيمة المضافة، لتشمل مواد فلاحية وبحرية وصيدلانية وعقارات ومنقولات ووسائل ترفيه، كانت معفيةً من الضريبة في السابق، ستتراوح بين 6 و18%، إضافة إلى إحداث معلوم تكميلي يتراوح بين 5 و35% على المبيعات والهبات المتعلقة بالعقارات التي تساوي أو تفوق مليون دينار تونسي، ومعلوم بألف دينار على المساكن التي تحتوي مسابح خاصة، ومعلوم في شكل طابع جبائي بـ 20 و40 و60 دينار يؤديه المحامون، بحسب درجة التقاضي، وضريبة استثنائية على الأرباح لسنة 2017 تؤديها الشركات والمؤسسات تقدر بـ 7,5%، وضريبة على نقل ملكية العربات لصالح صندوق
مقاومة التلوث تتراوح بين 50 و100 دينار، وضريبة على التجار المتجولين الذين يعملون بالسوق الموازية والقطاع غير المهيكل بـ 500 دينار، مع سكوت النص على من يوفر لهم السلع من كبار بارونات التهريب، هذا مع مجموعة كبيرة من الإجراءات الديوانية والتشريعات الزجرية للترفيع في معاليم الخطايا بأنواعها، واستخلاصها لفائدة الدولة. واختارت الحكومة إحداث هيكل أمني جديد، يسمى الشرطة الجبائية، أسوة بتجربة مؤسسة المحلّة، لاستخلاص ما قُرر من ضرائب وإتاوات وأموال مختلفة المصدر. وقوبلت هذه السلّة من الفصول الواردة في القانون، بما يسمى العصيان الضريبي والثورات الجبائية التي عرفتها تونس، في أواسط القرن التاسع عشر. ولكن، هذه المرةّ لم تقدها القبائل، وإنما قادها الاتحاد العام التونسي للشغل، بسلسة من التجمعات العمالية مع التلويح بالإضراب العام، والهيئة الوطنية للمحامين بيوم إضراب وبأسبوع غضب، ولم يتأخر الأطباء بأصنافهم، على الرغم من السكوت على ترقيم الوصفات الطبية، ورجال الأعمال، في رفض القانون، ومطالبة الجميع بإعادة النظر فيه، بوصفه يشكلّ نوعا من الدكتاتورية الجبائية.
ولكن الانعكاس السلبي الأكبر سيكون على الطبقة الوسطى والشرائح الشعبية التي ستنحدر أكثر في سلم الفقر، بسبب تأثير فصوله على دخلهم اليومي وقدراتهم الشرائية. اما الخاسر الرئيسي فهو شريحة الشباب التي أبلغتها الدولة، بانعدام فرص تشغيلها أو حمايتها اجتماعيا وصحيا، ما سيفقدها الأمل في حياةٍ كريمة، ويدفع بها إلى الموت غرقاً، أو في جبهات القتال في الحروب الدولية القذرة، على تخوم تونس، وفي عمق الشرق العربي الجريح والقتيل.