آمال وانتصارات في معركة المنهاج الأردنية

آمال وانتصارات في معركة المنهاج الأردنية

13 أكتوبر 2016

من مظاهرة احتجاجية في عمّان ضد تعديل المناهج

+ الخط -
هو نهار الزمن السياسي يشرق أمام أعيننا، كما يرى ريجيس دوبريه. في الأردن، الأمر يتعدّى ذلك، فتتطوع السياسة وكتّابها وقادتها إلى تبريراتٍ في حقلٍ من الأخطاء، مع أن النهايات مكشوفة، وتزداد حدّة الاستقطاب في سجالٍ أعقب انتخابات 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، لكنه رافقها، وطاول بعض من كانوا فيها ممن قالوا بالدولة المدنية وجعلوها مطلباً، ووضعوا يافطةً على أحد التقاطعات، تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، وفي اليوم التالي سحبت، خشية أن يصنفوا كفرةً ودعاة تحرير.
في المقابل، تطوّعت الأنفس والمنابر، لخوض معركة الجهاد ضد تغييراتٍ طاولت المناهج، تغييراتٍ تأتي بعد تخبط وزير التربية والتعليم، محمد الذنيبات، في مؤتمراته، وقسمه بأنه يحفظ من القرآن الكريم أجزاء، عطفاً على ماضٍ إسلاموي، وخبرةٍ لا تطاول البيروقراطيين العتاة والقادة في الدولة الأردنية، ممن يعرفون معنى الكلام ووقته وثمنه، ويدركون أن السكوت أحياناً من ذهب.
بعد صحوةٍ من الانتخابات، وقبل معركة رئاسة مجلس النواب الذي لا تريد حكومة هاني الملقي المثقلة بدوشة صفقة الغاز الإسرائيلي، وفي إرثها في عملية السلام غير القابل للتلميع، أن تدخل المجلس وهي مثقلةٌ بملفات آنية، وفي الشارع أصوات تعلو لشعب متعلم وحسّاس دفع كل ما لديه لأجل التعليم، ويحترم خيارات ملك البلاد الذي يستشعر الغضب، وأدار بلاده باقتدار في ظلال إقليم متفجر، لكنه، أي الشعب، لا يخشى نقد الشخوص، إن فشلوا في إدارة ملفاتهم، أو خذلوا الناس، خصوصاً في ظل تراجع الصدقية للحكومة الراهنة مبكّراً، مع اتساع فجوة الثقة
بين الرسمي والشعبي وعدم قدرة الحكومة على تخطي أزماتها التي كانت في غنىً عنها، ولا يمكن أن تكون قد خضعت لرأي مؤسّسي بقدر ما كانت تكلفاً زائداً من وزير التربية الذي لا يعدم وجود كتابٍ، ونخب تدافع عنه حتى بالخطأ، في التصريحات وفي الانتصارات المزعومة في معركته الراهنة.
والصحيح أن لا أحد ينتصر في أمر وطنيٍّ خاص بالتعليم، وقد قلنا إن الرابح هو الدولة، حين يكون تحديث المناهج مؤسّسياً، يمر عبر لجان متخصصة، وفيها خبرات وطنية. وفي تأليف المناهج عالمياً هناك مدارس تربوية عدة وآراء، إذ يشارك في الـتأليف فنانٌ ورجل حزب ومدرس وطالب، وفي الأمر اجتهاداتٌ كثيرة.
السؤال: ماذا يحدث في الأردن؟ هل بات المجتمع منقسماً ومنكشفاً إلى حدّ لا يجد فيه العُقّال درواً لدرء ما يحدث من مواجهةٍ غير مجدية، والتفرغ لقضايا أخرى داخل الوطن وداخل جهاز التربية والتعليم؟ فالبيئة المدرسية وشكل التعليم ورواتب المعملين المتدنية وتدريبهم أهم من كل ما يجادل به الناس والمسؤولون الذين يرون أنهم ينجزون الضرورات الوطنية الملحة!
وعلى أرضية إنجاز إعادة هيبة الثانوية ومنع الغش، تحرّك وزير التربية محمد الذنيبات، لتصحيح خطأ، نتيجة تسرّعه وفرديّته في القرارات، وهو أن الوزارة عدّلت المناهج عام 2015 وجاء إليها نقد، ممزوج بمطالب ليبرالية في تحديث المناهج وإعطاء مساحةٍ للآخر في المنهاج وتقليل النصوص الدينية.
هنا، من المفترض أن لجاناً درست ملاحظات دعاة التغيير ومطالبهم، وهو ما قاله الوزير، وإنه اتصل بثلاثمئة صاحب رسالة إلكترونية، وصلت إليه. وهنا، دخل الرجل في التفاصيل المزعجة وغير المقنعة، واتهم من يقفون وراء الحملة الناقدة لسياساته بأنهم أصحاب أجندات خارجية و"مشبوهة"، وهذا ما أزعج الجميع وقوّض صدقيته التي رافقها تهديد لمن أحرق المناهج بالحساب، وأجّج ذلك كله الشارع، وأحدثَ استفزازاً كان الأردن في غنىً عنه.
ووجدت نقابة المعملين الفرصة مناسبةً لاستعادة صوتها، ولجان الـتأليف العليا منزعجة أيضا من أسلوب الوزير الذي قد يكون محملاً بمهماتٍ، وقد يكون فيه من الرغبة بالعمل والإنجاز وحب ذلك، إلى حدّ أنه لا يرى الخطأ إلا نجاحاتٍ متراكمة، كما أنه لا يرى الآخرين الناقدين إلا مقوّضين لجهوده، هو من مدرسةٍ ليست من البيت البيروقراطي العتيد، بل جاء من الجامعة والحزب، وتكرّر وزيراً عدة مرات فقط، وليس لديه خبرة عميقة بالمواجهة والتدبير الهادئ لسياسات الدولة، والبناء على نجاح ضبط الثانوية ومنع الغش لا يكفي، فهو بحاجة لرؤية كامل الجبل، وليس قمته فقط.
لكن أيضاً، ثمّة من يريد لمسألة المناهج أن تكبر، والأصوبُ يجب أن ترشد وتحلّ بأقل الخسائر، بدراسة ملاحظات الأطراف كلها وجلوسهم معاً، والوصول ليس إلى قرارٍ، بل إلى توافق، من دون اتهاماتٍ مزعجةٍ، ومن دون القول بالانتصار والهيبات المستعادة، مع محاسبة كل من يخالف القانون ويعطّل التدريس، ومن دون تصوير الأمر مقاومةً للتحديث.
في مواجهة ذلك، لا بد من تحلّل الوزير من هوس أنه يمثل "السيستم"، ولا بدّ للطرف الآخر أن يعلم أن المناهج ليست لعبة مصائر وشعبويات، وقد مررنا في تجربةٍ سابقةٍ مع الوزير خالد طوقان عام 2004 في حكومة فيصل الفايز. آنذاك، يقول الأرشيف: "أقرّت الحكومة إدخال تعديلاتٍ على مناهج التعليم من 90 صفحة، تطاول مفاهيم لها علاقة بنبذ العنف، تدخل ضمن خمسة مساقات، هي اللغتان العربية والإنكليزية والتربية الوطنية والتربية الإسلامية
والتاريخ..". ويومها، ثار جدلٌ، لكنه انتهى بسرعة، ولم يدخل طوقان بمواجهة الكتلة العريضة، على الرغم من أن الفرصة كانت سانحةً، لكن المجتمع كان أقلَّ توتراً، ولا شبكات تواصل تفضح الأخطاء، وكان الوزير عاقلاً.
صحيح أن ذاكرة الجمهور قصيرة، لكن في رصد الظاهر وإدارة الأزمة الراهنة، هناك حاجة للترشيد، وطرح الأيدولوجيات التي وجدت لتسويغ الأمل جانباً، ذلك أن ممارسة النقد للعقل السياسي، والفاعل في العملية الحكومية، تصلح لإنعاش الواقع، والخروج أكثر قوةً بالنسبة للمؤسسات. أيضاً، يجب ألا تتم شيطنة الطلبة الذين ربما تأثروا بالكبار المؤدلجين، وحتى لو كان لديهم رأيٌ بما حدث، يجب أن يُسمع ويحترم.
لا بدّ من القراءة العتيدة للآراء المتعدّدة، لا انقسام في المجتمع الأردني ولا خلاف على الهوية العامة للدولة ومدى التزامها بالإسلام، ولا تكون الاستجابة للأزمة بالانتصار للوزير، أو تأييده، أو الدفاع عنه، كما أنها لا تؤطر بحتمية البحث عن صدقية الانتقادات وبراءتها، ومن يقف وراءها. ثمّة خللٌ يجب أن يعالج، ويجب أن تكون الاستجابة للأزمة بشكل أفضل، من دون العودة إلى الحديث عن قيم الدولة والثبات والتغيير والماضوية والإصلاح.
هناك مدارس وطلبة وكتلة عريضة من المعلمين الذين يشكلون عنصر حيوية للدولة، يجب تنزيههم عن أي اتهام، كما أن نبذ الاختلاف غير مقبول، ويجب الانتهاء بسرعة من دون ادعاء أحد بأنه أكثر حرصاً على الأردن من الآخر.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.