"الجعجعة" الأميركية و"الطحن" الروسي في سورية

"الجعجعة" الأميركية و"الطحن" الروسي في سورية

18 سبتمبر 2015
+ الخط -
لم تعد تقارير تعزيز روسيا وجودها العسكري في سورية، وتحديداً في مدينة اللاذقية، معقل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مجرد تكهنات، أو اتهامات مصدرها الاستخبارات الأميركية. فروسيا نفسها لا تتحرّج، اليوم، من تأكيد دعمها العسكري نظام الأسد في حربه على شعبه. بل قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من دون أي مداراة أو مواراة: "كانت هناك إمدادات عسكرية، وهي مستمرة وستتواصل، ويرافقها حتماً اختصاصيون روس، يساعدون في تركيب العتاد وتدريب السوريين على كيفية استخدام هذه الأسلحة". 

واستناداً إلى المعلومات الاستخبارية الأميركية، نشرت روسيا، في مطار اللاذقية العسكري، إلى اليوم، أربع طائرات هليكوبتر، وسبع دبابات روسية من نوع تي-90، فضلاً عن قطع مدفعية. كما تشير المعلومات إلى نشر 200 جندي من مشاة البحرية الروسية في المطار، بالإضافة إلى إقامة وحدات إسكان مؤقتة، ومحطة متنقلة للمراقبة الجوية ومكونات لمنظومة للدفاع الجوي. وحسب التقديرات الاستخبارية الأميركية، يعمل الروس على إقامة مركز عمليات جوية في سورية، وهم يجرون، في سبيل ذلك، تحسينات على المطار ومدرجاته، لكي يكون بمقدوره استيعاب طائرات أكبر حجماً في المستقبل. ويقول المسؤولون الأميركيون إن روسيا ترسل نحو طائرتي شحن عسكريتين يومياً إلى مطار اللاذقية.
تتوافق التحركات الروسية السابقة مع تأكيدات من مصادر عسكرية وسياسية في المعارضة السورية، من أن جنوداً روساً يقاتلون مع قوات النظام على الأرض، وأن التدخل الروسي المتصاعد في سورية يأتي في سياق حماية "الدولة العلوية" التي قد تنشأ على الساحل السوري، في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وذلك في حال فقدان النظام سيطرته على ما تبقى في يديه من الداخل السوري، وتحديداً العاصمة دمشق. وطبعاً، في إنشاء "مَحْمِيَّةٍ" على الساحل السوري ضماناً لبقاء القاعدة البحرية العسكرية للروس في طرطوس، وهي آخر قاعدة عسكرية متبقية لروسيا في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.
ما سبق بعض ما تقدمه روسيا لحليفها الأسد، فماذا عن موقف الولايات المتحدة التي تصر، إلى اليوم، على أن الأسد فقد شرعيته، وعليه التخلي عن الحكم؟ الإجابة ليست سارة أبداً للشعب السوري وللمعارضة.
بالإضافة لإعلان إدارة الرئيس بارك أوباما، قلقها من التحركات الروسية، وطلبها توضيحات من موسكو، فإن أوباما اعتبر أن مضاعفة التدخل العسكري في سورية مؤشر على قلق الأسد ولجوئه للمستشارين الروس لمساعدته. وأضاف أن إدارته ستتواصل مع روسيا لتبلغها أن دعمها الأسد "محكوم عليه بالفشل". ولم تكد تمضي أيام على تصريحات أوباما تلك، حتى كان البيت الأبيض يعدّل من لهجته، ويناشد الروس التواصل "بطريقة بنّاءة مع الائتلاف الذي يضم
60 بلداً، وتقوده الولايات المتحدة، ويركز على إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية وتدميره في نهاية المطاف". ويوم الأربعاء الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن الإدارة تبحث كيفية الرد على اقتراح روسي بإجراء محادثات عسكرية بشأن سورية، بما في ذلك ضمان أن لا يقع صدام بين الطائرات الحربية الأميركية والروسية في الأجواء السورية.
تردد موقف إدارة أوباما في سورية وضبابيته ليسا وليد اللحظة. بل يمكن القول إن إدارة أوباما شريك أساسي، إلى جانب روسيا وإيران ونظام الأسد، في تدمير سورية وسفك دماء مئات الآلاف من أبنائها، وتشريد الملايين من شعبها، وتحويلهم إلى نازحين ولاجئين وطالبي لجوء على أعتاب دول المنطقة والدول الأوروبية والغربية الأخرى، دع عنك الضحايا الذين تبتلعهم البحار.
فإدارة أوباما هي من تضع، إلى اليوم، "فيتو" على تسليح المعارضة السورية بأسلحة ثقيلة ومتقدمة، بما في ذلك الصواريخ المحمولة على الكتف، للتصدي للطيران الحربي للنظام، بذريعة الخوف من "وقوعها بالأيدي الخطأ". وفي أتون الفوضى التي سمحت إدارة أوباما باستمرارها سنوات في سورية، تمددت "داعش"، فكان أن أعلن أوباما الحرب عليها، وأمر بتدريب آلاف من "المعارضة السورية المعتدلة"، لا للتصدي لنظام الأسد، بل للتصدي لـ"داعش". واليوم، وبعد عام من إعلان أوباما "استراتيجيته" لمحاربة "داعش"، نكتشف أن وزارة دفاعه لم تدرب سوى بضع عشرات من المقاتلين السوريين، في حين أن الخطة كانت تقضي بتدريب خمسة آلاف، على الأقل، في هذه المدة! أيضاً، إدارة أوباما هي من تعارض، إلى اليوم، إنشاء منطقة حظر للطيران، داخل سورية، لحماية النازحين من فظاعات البراميل المتفجرة التي يمطرهم بها طيران النظام، وبالتالي، لم يعد أمامهم من خيار إلا الاندفاع إلى خارج الحدود. المفارقة، هنا، أن الغرب، وتحديداً أوروبا، لم يتفاعل مع مأساة الملايين من اللاجئين السوريين، إلا عندما بدأ آلاف منهم يطرقون أبوابه عبر رحلات الموت في البحار، وها هم بعض الأوروبيين، اليوم، كألمانيا والنمسا وإسبانيا وبريطانيا، لا يرون بداً عن التفاوض مع الروس، والقبول ببقاء الأسد في السلطة ضمن "مرحلة انتقالية".
هذه حصيلة سياسات إدارة أوباما، "جعجعة" كثيرة حول فقدان الأسد الشرعية منذ عام2011، وضرورة تخليه عن الحكم، لأن بقاءه "مزعزع للاستقرار وغير إيجابي"، في حين أنها لا تقوم بشيء لتحقيق ذلك واقعاً، بما في ذلك التنحي من طريق آخرين من حلفاء أميركا ممّن يريدون تهيئة الظروف لإخراج الأسد، وإراحة سورية منه. في المقابل، تستميت روسيا وإيران في دعم نظام الأسد على حساب سورية التي تحوّلت أطلالاً من الخراب، ومقبرة جماعية لأبنائها. فما يهم روسيا وإيران هو بقاء "مَحْمِيَّةٍ" تابعة لهم، سواء في كل سورية، أم في بعضها، وهم "يطحنون" سورية كلها وشعبها، في سبيل ذلك.
قد تكون حسابات إدارة أوباما قائمة على أن سورية ساحة استنزاف لكل خصومها وخصوم إسرائيل، عرباً وأتراكاً وإيرانيين وروساً، غير أن تلك "الخِفِّة الاستراتيجية"، حتى في منظور كثير من أعمدة إدارتيه، عادت بالوبال على الاستقرار العالمي كله. فها هي "داعش" تهدد الغرب بالويل والثبور من هناك. وها هم اللاجئون السوريون يُعَرّون "إنسانية" الغرب. وها هي سورية أضحت ساحة صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وقد تكون شرارة صدام عسكري بين الولايات المتحدة وروسيا. دع عنك أنها، اليوم، ثقب أسود، قد يمتص المنطقة كلها إلى أتون الفوضى، بما في ذلك إسرائيل.