في رفض تحسين صورة الإسلام

في رفض تحسين صورة الإسلام

14 سبتمبر 2015
+ الخط -
كلما حصلت حادثة عنفية في الغرب، يقف وراءها مسلمون، أو قام مسلمٌ ما بتصرفٍ سيئ في أوروبا، ذهب النقاش، في بعض الأوساط الثقافية العربية، وكذلك في أوساطٍ شعبية، إلى الإساءة إلى الإسلام التي تستدعي تحسين صورته، وتظهير "الإسلام الحقيقي" أمام الغرب، وتشارك بعض وسائل الإعلام الغربية في هذا النقاش، ويطيب للرئيس الأميركي، باراك أوباما، مثلاً، وآخرين من السياسيين الغربيين، التأكيد أن تنظيم داعش لا يمثل الإسلام الحقيقي، ويحلو لهم تشجيع المسلمين على إظهار الصورة الحقيقية المعتدلة للإسلام، ويُظهر كل هذا النقاش، بهذه اللغة، تهميشاً لأسباب العنف والصراع الدنيوية، وتأكيداً على حضور التفسيرات الدينية للصراعات.
يمكن تسجيل أكثر من ملاحظة على الدعوات المتكررة لتحسين صورة الإسلام أمام الغرب، وإظهار الإسلام الحقيقي، أولها أنه لا يوجد إسلامٌ حقيقي لتظهيره، إذ إن النص الديني خاضعٌ لتأويلات مختلفة، والتأويل هو الذي يحدّد اتجاه النص ومعناه، ثم طريقة استخدامه لاحقاً، ما يجعلنا أمام نسخٍ متعددة من الإسلام. وعادةً يكون الحديث عن الإسلام الحقيقي محاولةً لاحتكار فهم النص الديني، وهو أمرٌ لا تقوم به التنظيمات الجهادية فقط التي تستخدم التكفير وسيلةً لقطع الرابط بين النص الديني والاجتهادات المخالفة، بل يمكن أن يقوم به من يقدّمون أنفسهم بوصفهم معتدلين، خصوصاً إذا دعوا إلى مراجعة التراث الديني وتنقيحه، وإنتاج نسخة منقحة من الإسلام تحمل قيم الانفتاح والتسامح، لتعميمها إسلامياً، وإظهارها أمام الغرب، وهذه دعوة تنطوي على إغلاق الباب أمام حرية إنتاج المعرفة، واحتكار فهم النص الديني، عبر مؤسسة دينية مهيمنة، تتبع، على الأغلب، السلطة السياسية.
ولأنه لا يوجد إسلامٌ حقيقي، ولا مسيحية أو يهودية حقيقية، فإن من يدعُ إلى تحسين صورة الإسلام، وإظهار حقيقته، يعانِ، في الغالب، من عقدة نقص وانهزام أمام الغرب، ويشعر أنه مسؤول عن كل عملٍ سيئ يقوم به مسلم في هذا العالم، وأنه ملزم بالاعتذار، وتحديداً للغرب. وهنا، يتم تصديق وجود رابط بين العنف والإسلام بشكل خاص، وتكريس المركزية الغربية في أذهان الناس، وربط كل محاولة لتجديد الخطاب الديني برضا الغرب عنه، وهذا أحد أوجه الاستخدام السياسي للخطاب الديني، ولكن لصالح الغرب، وباسم التنوير والتسامح، وضمن رؤية لا ترى البشر إلا طائفين حول كعبة الغرب، ويلتقي هذا مع الخطابات الغربية التي تتحدث عن الإسلام الحقيقي، فهذا الإسلام الحقيقي، أو ما يجب أن تكون عليه صورة الإسلام بالنسبة للغرب، يتعلق بتسامح هذا الإسلام مع الهيمنة الغربية، ومصالح الغرب السياسية والاقتصادية، ولطالما كان الغرب مهتماً بتعزيز مصالحه في المنطقة العربية، وفي أماكن أخرى، بإيجاد حالة إسلامية حليفة، يواجه بها خصومه، بما في ذلك الحالة الجهادية التي تحالف معها في أفغانستان.
ليست قضايا العنف خاصة بالمسلمين، والغرب "المتحضر" يقوم بممارسات أشد عنفاً، وجرائم مروعة، لا يتم تفسيرها ثقافياً وحضارياً. ويبدو الحديث، هنا، مجرد محاولة من الطرف الأضعف، لكسب رضا الطرف الأقوى، وليست قضية تجديد ثقافي، هي مطلوبة لذاتها بشكل
طبيعي تفاعلي، لا باعتبارها حلاً لمشكلة الصراعات مع الغرب، إذ يستبطن الحديث عن صورة الإسلام، أو تنقية النصوص التراثية، اعتبارها أصل المشكلة، والأمر ليس كذلك، فتأويل النص الديني واستخدامه في تبرير العنف، مثلاً، تفرضه الحاجة السياسية للصراع على النفوذ والموارد، وهو الأمر الدنيوي الذي تتمحور حوله الصراعات في العالم.
المثال الساطع لهذه الرؤية الدينية للصراعات يتمثل بالحديث عن حوار الحضارات، بوصفه حلاً لإشكالات الصراع، وهذا هو الوجه الآخر للإيمان بصراع الحضارات، إذ إن الرؤيتين تنطلقان من التسليم بأن أصل الصراعات يتعلق بالحضارات والأديان، وليس بمصالح دنيوية، تماماً كما هو طرحُ تعايش الطوائف، حلاً لصراعها، متعلقٌ بالتسليم بالحالة الطائفية، وابتداع الحلول من داخلها، وبما يضمن استمراريتها. حوار الحضارات وتفاعلها يتم بطريقة تلقائية، كما أن التجديد الثقافي داخل سياقٍ ثقافي معين يحصل عبر تراكمات عديدة، لكن الحديث عن حوار حضارات أو تجديد ديني، ضمن الخطاب السياسي، أو لمعالجة قضايا سياسية، يشير إلى حجم التوظيف الذي يحصل للدين، داخل الخطابات السياسية، حتى التي ترفع رايات التسامح وقبول الآخر.
لا يقول النص بذاته شيئاً، ما لم يُنطقه من يقوم بتأويله وتفسيره، ولدى هذا الذي يفسّر النص، حاجة سياسية أو اقتصادية، تجعله يستخدم هذا التأويل ويستدعيه، لمواجهة الظرف الذي يعايشه، ما يجعلنا نركّز على تغيير الظرف نفسه، أي تغيير المعطيات السياسية والاقتصادية التي توفر بيئة خصبة للتأويلات العنفية الدموية، وتهميش الحالة الراديكالية، بإيجاد وضع سياسي يمنع تمددها.
استكمال مشروع الحداثة المعطوب في الوطن العربي، وإعادة بناء الشرعية في الدولة العربية، على أسس جديدة، ومجابهة المشاريع الاستعمارية، بروحٍ وطنية وقومية، هو الطريق الأمثل لتهميش الحالات الراديكالية الدينية، أما الحديث المتكرر عن تنقيح التراث، بوصفه حلاً لمعضلة العنف السياسي أو "الإرهاب"، فهو ليس إلا غرقاً في التفسيرات الثقافية والدينية، لصراعات سياسية واقتصادية، ووصولاً إلى توظيف الاجتهاد الديني سياسياً، واحتكار فهم النص الديني، من الباب الآخر.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".