يعقوب زيادين ..

يعقوب زيادين ..

07 ابريل 2015
+ الخط -
ورحل طبيب الفقراء الشيوعي العتيق، يعقوب زيادين، رحل بهدوء، تماما كما شخصيته الهادئة مظهراً، المليئة بالثورة جوهراً. رحل في غير زمنه، زمن الدواعش و"البسطار الأميركي"، وهو الذي أمضى حياته مناضلاً من أجل الحرية والتحرر.
رحيله موجع جدا لي، فوجوده معنا كان يعطيني أملا بإحياء زمن آخر، زمن مقاومة الاستعمار في وقت أضحى الاستنجاد بالمستعمر مقبولاً، بل ومطلوبا في زمن الثورات المضادة للحرية والتحرر.
صحوت على هذه الدنيا، وأنا أرى الرجل الوسيم، يدخل ويخرج من المعتقل. بعض ذكريات الطفولة ما زالت تقاس بلحظات اعتقال أو إفراج، ثم سماع قصص المعتقلات، من الجفر الصحراوي في جنوب الأردن إلى سجن المحطة في عمان، إلى قصص التعذيب والحرمان، إلى قصص انتصار الإرادة، على الرغم من الظروف القاسية.
أتذكر الجلوس مشدوهة في طفولتي، وأنا أسمع الدكتور ورفاقه، ومنهم خال أمي، خليل السالم، الملقب "بالخال". كان الدكتور زيادين حريصاً على ممارسة المشي ذهابا وإيابا مها ضاقت الزنزانة، وأتشرب في ذهني وروحي النقاشات حول حلف بغداد وتعريب الجيش الأردني، إلى حكايات المقاومة الشيوعية ضد النازية، إلى روايات الأدب الروسي.
لم يكن في أحاديثهم وتصرفاتهم ما يشير إلى ندم أو استسلام، بل عزيمة وفخر واعتداد، كنت أشعر بأنهم امتداد لمعركة تحقيق العدالة والحرية عبر التاريخ، وفي كل بقعة في العالم، والأهم حب الإنسانية والإنسان.
ثم شهدنا الهزائم وتغول أنظمة القمع والاستبداد، واستمرار الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين، وتبددت أحلامهم بنصر قريب، لكنني أذكر، أيضاً، يوم تحرك الدكتور يعقوب زيادين، إلى بيروت، في أثناء الحصار الإسرائيلي لها في 1982، لأن النضال لم يكن قولاً، بل فعلا، فوجوده طبيباً وشيوعياً هناك، التزام منه في قلب المعركة مع المقاومين في منظمة التحرير الفلسطينية والشعب اللبناني.
كان ابن قرية سماكية الكرك الأردنية عربياً، فلسطينياً بالمفهوم النضالي والإنساني، فهو ابن القدس كما كان أنه ابن الكرك، ففي شبابه عمل طبيباً في القدس، وجاءت انتخابات مجلس النواب، وهي أهم انتخابات في تاريخ الأردن عام 1956، ورشح نفسه، وانتخبه أهل القدس نائبا لهم، لأنه كان يعقوب زيادين، ولأن ذلك كان زمن الوعي القومي ضد الاستعمار، وحباً في تحرر الأردن من التبعية، وأملاً في تحرير فلسطيني.
وقد أعطى طبيب الفقراء في القدس، وعمّان لاحقاً، مثالاً عمليا لمعنى الوقوف في صف الكادحين، فعالج كثيرين من دون مقابل، ليس عملاً خيرياً، بل قناعة مبدئية: قبل أن تسود الفرقة الإقليمية الفلسطينية-الأردنية المصطنعة، وقبل أن تطغى الطائفية القبيحة، فلا مسيحية زيادين بالولادة ولا أردنيته كانتا موضع جدل، ولا شيوعيته، وهي هويته الأهم، أثرت على شعبيته في ذروة عهد مكافحة الشيوعية.
في عام 1957 حل النظام البرلمان، وزج مئات في السجون، منهم يعقوب زيادين، ونفى عائلته الصغيرة، زوجته الشجاعة سلوى، وطفليه خليل وخالد، إلى قرب الكرك، في ظروف فقر مدقع، إلى أن تم تهريبهم إلى ألمانيا الشرقية، ولم ير الأب أطفاله، إلا بعد أن أصبحوا شباباً.
نودع الطبيب الجميل، وفي قلوبنا حسرة وألم، حزنا على فراقه، ونحن على ثقة بالشباب الواعي، فلنتذكر أن شباباً ورجالاً ونساء صامدون في المعتقلات، وأن هناك من لم يقعوا فريسة للطائفية، أو لإغواء رضا السيد الأميركي، لأن الظلم لن يدوم.