أميركا والهند.. أسس نظام عالمي جديد

أميركا والهند.. أسس نظام عالمي جديد

13 مارس 2015

أوباما ومودي بعد مؤتمر صحافي في نيودلهي (26 يناير/2015/Getty)

+ الخط -
يرى أميركيون عديدون في باراك أوباما مجرد قائد آخر جديد. لكن المواطن الهندي العادي بعيد عن أن يقبل هذه الحقيقة. أصبح هذا القائد أول رئيس أميركي يزور الهند مرتين. ولعله تعهّد على نفسه بأن يكون أقل وعوداً، وأكثر إفادة للمستعمرة البريطانية السابقة. إلا أنه، وبسبب قلة معرفته جيدا بالتاريخ، يصنف إعلام البلد المضيف أوباما في خانة "القادة المستبصرين". ويبدو أن هناك أسبابا لهذا التفاؤل.
ويمكننا الزعم بأن العلاقات الهندو-أميركية بلغت مرحلة متقدمة من النضج، غير أننا قد نعتبر أن البيان المشترك الموقّع بين الطرفين، في ختام زيارة أوباما، مجرد حدث عارض، مقارنة مع القضايا الأساسية التي نوقشت وتم الاتفاق عليها. والمسألة أن الهند جعلت من أميركا شريكاً استراتيجياً رئيسياً، واضعة نصب أعينها أحدث الأجهزة العسكرية الأميركية، وكذلك التأثير النافذ لأميركا على جزء من المنطقة، والممتد إلى قلب بحر الصين الجنوبي. وتبقى للاتفاقات الأربع مع دلهي (الاتفاق النووي، والتعاون في مجال الدفاع، والشراكة في المحيط الهادئ ضد الصين، والشراكة في مكافحة الإرهاب لاستبعاد باكستان)، تداعيات بعيدة المدى على المستويين، الإقليمي والدولي.

خريطة طريق طموحة
ما زالت الهند عاجزة عن تطوير مفاعلات نووية محلية، ولذلك تتطلع إلى التكنولوجيا النووية الأميركية، كما أن منظري دلهي الاستراتيجيين ينظرون إلى الأجهزة النووية رمزاً لحالة من الاستقرار، أكثر من كونها مصدراً حيوياً للطاقة النظيفة. وعلى الرغم من أن الطرفين وقّعا اتفاقاً نووياً في عام 2008، إلا أن المعارضة القوية للحزب القومي الهندي، بقيادة بهاراتيا جاناتا، حول تفاصيل حيوية متعلقة بالاتفاق، حالت دون نجاحه. وقد سبق وأعلن السياسي المتشدد، سوشما سواراج، أن الاتفاق النووي "خطأ فادح".
يتطلع البيت الأبيض، على مدى ستة أعوام، إلى استخدام سلطات تنفيذية ضد القضايا المتعلقة بمراقبة استخدام المواد النووية، والتي يتم شراؤها حتى من بلدان ثالثة. ويتم الآن، وبشكل كبير، فرز الأحكام والشروط المناسبة لاستمرار الاتفاق النووي المدني. وهناك شركات عملاقة رحّبت بالاتفاق مسبقاً، مثل شركة ويستينغ هاوس وشركة ج.إ هيتاشي للطاقة النووية. ونظراً لطموحات الهند، هناك احتمال كبير بأن المفاعلات النووية قد توفر مواد انشطارية للاستخدام
 العسكري في مرحلة مستقبلية ما. وبالتالي، قد يتعرض تتبع أوباما التنازلي لنقد شديد.
وقد وافقت إدارة أوباما، أيضاً، على دعم دخول الهند المرحلي في مجموعة مزودي المواد النووية (NSG)، ونظام التحكم في تقنية الصواريخ (نظام مراقبة تكنولوجيا القذائف)، واتفاق فاسينار لتعزيز عدم الانتشار، وأنظمة مراقبة التصدير. ولا تخفي الإدارة رغبتها في الاستفادة من أكبر مشترٍ للأسلحة، والذي فاق حتى السعودية. وربما زادت رغبة أوباما هذه، بعدما شاهد نسبيا العتاد العسكري الروسي الرفيع ساعتين، خلال موكب عيد الجمهورية السادس والستين في نيودلهي.
وفي تزامن مع نظرية واشنطن حول "محور آسيا"، أصبحت إدارة أوباما واضحة حول دور الهند في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد أشار البيان المشترك إلى "فُرص الهند، والولايات المتحدة، ودول آسيا والمحيط الهادئ الأخرى للعمل، بشكل وثيق، لتعزيز العلاقات الإقليمية". ونص على أن الازدهار الإقليمي يعتمد على الأمن. وأكد أهمية الحفاظ على الأمن البحري، وضمان حرية الملاحة والتحليق في جميع أنحاء المنطقة، وخصوصاً في بحر الصين الجنوبي. واقترح مودي إحياء الحوار الرباعي حول الأمن، والذي يعتبر بمثابة اتفاق غير رسمي حول قضايا الأمن، يضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا.
هناك شكل آخر من رؤية الهند والولايات المتحدة، متعددة الأوجه، يتعلق بمسألة مقاومة الإرهاب والحد منه، موضوعٌ عادة ما تفرط الهند في التركيز عليه، كلما تعلق الأمر بالجار اللئيم والخصم اللدود باكستان. وقد أشار البيان المشترك، مباشرة، إلى جماعات متشددة، تتخذ من باكستان مقراً لها، مثل جماعتي عسكر طيبة، وجيش محمد وشبكة حقاني. ووافقت الدولتان على تبادل المعلومات عن الإرهابيين، والدخول في محادثات لتعميق العمل الجماعي على تسميات الأمم المتحدة للإرهابيين، إلى جانب دعوة باكستان مجدداً إلى "تقديم منفذي هجوم مومباي الإرهابي إلى العدالة". وهو هجوم تزعم الهند أن متطرفين باكستانيين دبروه، وخلّف 164 قتيلا في نوفمبر/تشرين الثاني 2008.

ردود فعل سريعة وحادّة
مباشرة بعد تحليلٍ دقيق لرمزية المحادثات بين أوباما ومودي ومضمونها، جاء رد الفعل من
 باكستان والصين حاداً. فذكّرت إسلام آباد واشنطن ودلهي بأن "الحاجة إلى إجراءات تعاونية وجماعية من جميع الدول الأعضاء، ضرورية للتصدي بفعالية للتهديد العالمي للإرهاب". وبعد أن فقدت ستين ألفاً من مواطنيها في أعمال إرهابية، منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، قالت وزارة الخارجية إن باكستان "ترفض أي تلميح أو تشهير حول التزامها بمحاربة الإرهاب". وذكّرت الهند "بإحضار مخططي ومرتكبي الهجوم الإرهابي على قطار سامجهوتا السريع في فبراير/شباط 2007 إلى العدالة"، والذي أسفر عن مقتل 68 شخصا قرب بانيبات في الهند، ولم تستطع دلهي استكمال التحقيقات إلى الآن.
وفيما يتعلق بمسألة مجموعة موردي المواد النووية وصادرات أخرى تتعلق بأنظمة المراقبة، أعربت باكستان عن معارضتها للإعفاء الخاص بالهند، لأن من شأنه أن يزيد من تعقيد بيئة الاستقرار الاستراتيجية الهشة في جنوب آسيا، في حين قد يعمل ذلك على تقويض مصداقية مجموعة موردي المواد النووية، وهي مجموعة متكونة من 48 دولة من موردي المواد النووية (مجموعة موردي المواد النووية) أنشئت في عام 1975، لضمان عدم تحويل التجارة النووية المدنية إلى أهداف عسكرية.
وقالت بكين إن الأعضاء الجدد مضطرّون إلى اتباع قواعد معينة، وإن توسّع المجموعة يتطلب مداولات مفصّلة، وتوافقا في الآراء بين الأعضاء. وكان غضب باكستان على تفعيل الهند والولايات المتحدة الاتفاق النووي قوياً. ففي حين حذرت من مخاطر هذا الاتفاق على زعزعة الاستقرار في جنوب آسيا، حافظت باكستان لنفسها على الحق في حماية مصالحها الأمنية الوطنية.
وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية، متسائلا عن نيات أميركا والهند ضد بلاده "لا أعتقد أن هذا النوع من عقلية الحرب الباردة سيلقَى صدى في القرن الواحد والعشرين. كما أن الهند من غير المرجح أن تكون جزأ من أي تحالف من هذا القبيل". وقد اتخذت الصين البيان المشترك بين الولايات المتحدة والهند إشارة إلى النزاعات في بحر الصين الجنوبي. وقالت إن على الدول المعنية فقط أن تعمل معاً على حل المشكلات. وأضاف المتحدث أنه "في المرحلة الحالية، يبقى الوضع في بحر الصين الجنوبي مستقراً على العموم، وليست هناك أي مشكلة مع حرية الملاحة وحرية الرحلات الجوية".
وتحدّت إسلام آباد طموحات الهند للحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وقالت إن "أي دولة تنتهك قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بشأن مسائل السلم
 والأمن الدوليين، من أمثال قضيتي جامو وكشمير، ليست بأي حال مؤهلة للحصول على وضع خاص في مجلس الأمن".

تحذيرات تحت الطاولة
لا زال مودي حذرا من محاولة إعادة تكرار شعاره "هيندوتفا"، الطامح إلى سيطرة الهندوس على الهند، خصوصاً وأن عرّابه ورفيقه، المنظمة الهندوسية راشتريا سواياوسماك سانغ، لم تكن لتجعل حيوات الأقليات الهندية أسهل. فمسلمو الهند ومسيحيوها يشعرون بتهديد دائم. وفي بعض الأماكن من البلاد، يتم الضغط على الأقليات واضطهادها، إذا لم تقبل اعتناق الهندوسية. وعلى الرغم من أن أوباما أشار، بشكل غير مباشر، إلى هذه المسألة، إلا أنها أبعد من أن تُؤخذ بجدية. وبما أن الشراكة في مجال حقوق الإنسان تتمنع من أن تأخذ مجراها الطبيعي، خصوصا فيما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية وأكرانيا، فإن تحقيق ذلك سيكون صعباً.
وتسعى كل من الهند وأميركا إلى تعزيز التنمية والسلم في أفغانستان ما بعد حلف الناتو. لكن الحقائق على أرض الواقع تُكذّب ذلك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بدلهي. ولم يعلّق شخص آخر، سوى وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هاغل، في فبراير/شباط 2013 على "مشكلات تمويل" الهند لباكستان في أفغانستان. قائلا إن "الهند كانت دائما ما تستخدم، لبعض الوقت، أفغانستان باعتبارها جبهة صراع ثانية. كما أنها، لسنوات، موّلت قلاقل لباكستان على هذا الجانب من الحدود. ويمكننا أخذ ذلك على أبعاد عديدة، والمسألة أن العلاقة بين باكستان وأفغانستان متوترة، ومجزأة سنوات عديدة". وقد نعتبر أن استغلال الهند أراضي أفغانية من أجل زعزعة استقرار باكستان، أو تصفية حساباتها معها، بالشيء الخطير، والذي سيجعل من رغبة أميركا بعيدة المدى في تحقيق التعايش السلمي والاستقرار في المنطقة على المحك.
من شأن قلة تركيز واشنطن، وغياب مبادرة حقيقية من أجل الحد من القوات الهندية في ولاية جامو وكشمير المتنازع عليها، واستئناف عملية الحوار الشامل مع باكستان، أن يترك وراءه وضعاً غير مستقر. فمنذ تولي مودي رئاسة الوزراء، انتهك الجيش الهندي وقف إطلاق النار بحجة أو بأخرى. ومع تعليق عملية السلام بين باكستان والهند، يبقى خطر نشوب صراع تقليدي ومحدود قائماً بشدة. ومن المرجح أن يكون الرئيس أوباما قد أثار هذه المسألة في محادثاته في دلهي. ولكن، نظرا لأهمية بنود جدول الأعمال الأخرى المتعلقة بالبيان المشترك، لن يُنظر إلى مسألة تحسين الوضع الراهن مع باكستان بالشكل اللائق.
وفيما يخص مستقبل العلاقات التجارية، أكد أوباما بجدارة على تحديات تواجه الشريكين الاستراتيجيين، وقال: "من بين جميع واردات الولايات المتحدة، 2% فقط تأتي من الهند، في حين أنه من بين جميع صادرات الولايات المتحدة، حوالى 1% تذهب إلى الهند، يعني 1% لمليار شخص". وأضاف "أن تجارة الولايات المتحدة مع الهند تساوي 100 مليار دولار
 أميركي، مقارنة مع 560 مليار دولار مع الصين". وفي أثناء محاولاتها التخمين في وضع مستقبل العلاقات التجارية على المسار الصحيح، خصصت الإدارة الأميركية 4 مليارات دولار للاستثمارات المدعومة من الحكومة، وإقراض الهند مليار دولار من أجل تمويل الصادرات الأميركية. وإذا قارنّا بين مسألتي باكستان "المزعجة" والصين "الحازمة" مع هذا الحجم الضئيل من العلاقات التجارية، فإن طموح الولايات المتحدة في استمرار الشراكة مع الهند مدة طويلة، سيكون بمثابة إدخال فيل في الغرفة.
مؤكد أن زيارة الرئيس الأميركي الثانية إلى الهند رفعت من سقف تحديات باكستان والصين. فكلاهما لا يمكنه التركيز على أهمية شراكتهما الاستراتيجية الثنائية الخاصة بما فيه الكفاية. وفيما قد يُعتبر رداً ماكراً ومدروساً لانكشاف الأحداث، كان قائد الجيش الباكستاني، الجنرال رحيل شريف، في اجتماع القيادة العليا الصينية في بكين، في وقت كان مودي فيه يُرحب بأوباما في مطار دلهي.
كلا الجانبين وصف العلاقات الثنائية بالصداقة التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال، لتحقيق مصير مشترك. فقد وافقت إسلام آباد وبكين على تعزيز التعاون في مجال الدفاع على المدى الطويل، وعلى تعزيز القضايا المتعلقة بالأمن. وبالتالي، لم يبق هناك أدنى شك في أن باكستان والولايات المتحدة تتفقان على قضايا تكتيكية، وعلى المدى القصير. أما قضايا الأهداف المشتركة على المدى الطويل، فلم يعد لها أثر. وتواصل وزارة الخارجية العمل على أساس قضية واحدة في الوقت الحالي، على أن الحوار الاستراتيجي القائم ليس إلا مجرد منتدى لمناقشة الوضع الأمني، في أعقاب الحرب على الإرهاب.
قام الرئيس أوباما بزيارة واحدة إلى باكستان، ولا تأثير يذكر لتصريحاته بشأن باكستان ضد الإرهاب. ثم إن الحليف القديم حذرٌ من مصلحة الولايات المتحدة في المنطقة، فقد تخلّت واشنطن عن أفغانستان وباكستان، بعد انسحاب السوفييت بموجب اتفاق جنيف. وكان أوباما قد وعد بتعيين مبعوث خاص للولايات المتحدة بشأن جامو وكشمير. لكننا نراه يشيد بمودي الذي كان، في وقت سابق، شخصا غير مرغوب فيه، بسبب دوره المباشر في مذبحة مسلمي ولاية غوجارات سنة 2002.
تسعى الولايات المتحدة، جاهدة، إلى توَسيع نفوذها في أفغانستان المضطربة من جهة، وفي منطقة بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ غير المستقرة، من جهة أخرى. كما لو أن تشجيعها لهندٍ محفوفة بمخاطر متزايدة من فرط القومية، وعالقة في قضايا شائكة، مثل جامو وكشمير، لم يكن كافياً.
تذكرنا هذه المقاربة الحذرة بقول القائد الفرنسي، شارل ديغول، "يمكنك التأكد من أن الأميركيين سوف يرتكبون كل الحماقات التي يمكن أن تخطر ببالك، إضافة إلى أخرى هي أبعد من الخيال".

دلالات