العرب في زمن مراجعة الذات

العرب في زمن مراجعة الذات

03 ديسمبر 2015
+ الخط -
تعرف المجتمعات العربية، في السنوات الأخيرة، لحظات مخاض تاريخي، تُنْذِرُ بأهوالٍ كثيرة، وبحكم أن هذه اللحظات تتم داخل دائرة زمانية ومجالية أوسع وأكبر، فإن رياح وعواصف ما يجري تتجاوز الحدود الجغرافية المعهودة، لتشمل محيطاً يزداد شساعة، وتتضح ملامح ما يحصل فيه وأهدافه يوماً بعد يوم. وبحكم أننا لا نستطيع معرفة، ولا تقدير كل هذا الذي يجري أمامنا، من دون الاستعانة بالتاريخ وضوابطه، فإننا سنتجه إلى معاينة علامات ما يقع في حاضرنا بالوسائل التاريخية المتاحة، على الرغم من صعوبة الوقائع التي نواجه كل يوم ومنذ سنوات.
لا وقت، في نظرنا، لخطابات التشفِّي، أو خطابات تحصيل الحاصل، ذلك أن لحظات مُمَاثِلَة لما نحن فيه وعليه، تقتضي منّا، أولاً وقبل كل شيء، القيام بجملة من المراجعات الكبرى لمجمل قناعاتنا، ولمجموع المبادئ والقواعد التي نستخدم في العادة عندما نُواجه مثل هذه المشكلات، فبدون مراجعاتٍ تمكِّننا من بلورة تصوُّرات وخيارات جديدة، مكافئة لحجم التحوُّلات العاصفة، سنواصل التحصُّن بلغةٍ وخطاباتٍ لم تعد تسعف لا بتعقُّل، ولا بتجاوز ما يجري أمامنا وفوق رؤوسنا.
نتصوَّر أن محاسبة الذات تُعَدُّ شرطاً أساسياً في هذه المراجعة التي نروم القيام بها، وتزداد أهمية هذه المحاسبة، اليوم، عندما نواجه أنفسنا بجملة من الأسئلة، من قَبِيل ماذا أثمرت معارك مجتمعاتنا الأخيرة في مجال الحرية والتحرُّر؟ وماذا جنينا قبل ذلك، من جهود مفكرينا ومصلحينا، الذين حرصوا على مجابهة إشكالات مجتمعنا في النهضة والتقدم؟ ثم ما هي العبر التي يمكن استخلاصها من أدبيات الجمعيات والمؤسسات والمراكز التي اعتنت، وتواصل عنايتها بالخيارين، الإصلاحي والسياسي الديمقراطي في مجتمعنا؟

لا حرج في توسيع دائرة السؤال، وجعلها تشمل كذلك نظامنا التعليمي بجميع أسلاكه، ذلك أن استمرار الأمية في مجتمعاتنا، وعدم قدرة مناهجنا وبرامجنا في التعليم على تطوير بنيات الوعي السائد داخل مجتمعاتنا، تكشف، بجلاء، أننا نخبط خبط عشواء. وبجانب ذلك، ماذا فعلنا، أيضاً، في مجال الإعلام والثقافة، ونحن نعاين الثورات الحاصلة في هذه المجالات، وما أصبحت تمارسه من أشكال التأثير على ناشئتنا؟
يحق لنا أن نتساءل أمام الانسداد الذي نواجه منذ عقود عن كيفيات حصول التغيّر والتطور في المجتمع وفي التاريخ؟ وإذا كنا نسلّم بأن الموضوع معقَّد ومركَّب، بحكم أن المسار التاريخي، بصورة عامة، ليس دائماً خطياً أو تصاعدياً، بل تعتريه تحوُّلات تدفعه، أحياناً، إلى الأمام، وتعود به أخرى إلى الوراء، كما تعتريه انقلاباتٌ يصعب التكهُّن بها، وبما تحمله من نتائج، أو تفتحه من آفاق، فإن هذا الأمر يُضَاِعف مسؤوليتنا في لزوم المواجهة، والبحث عن وسائل الخلاص التاريخي المتاحة.
تساعدنا مثل هذه الأسئلة على إنجاز لحظة مراجعة وحساب لذواتنا، ساسة ومثقفين وفاعلين في منظمات المجتمع المدني، فنحن لا نستثني أحداً من مسألة مراجعة الذات ومحاسبتها، خصوصاً ونحن نواجه، اليوم، إشكالات وظواهر تجعلنا نكتشف أن مياه السيل الجارفة تغمر اليابسة، ما ارتفع منها وما انخفض.
لم يعد هناك وقت للانتظار، أو للسقوط مجدداً في حِبَال الأحلام الملونة، هرباً من مآلٍ ساهم الجميع في حصوله، ولعلنا مطالبون، بالذات، بإنجاز لحظةِ غضبٍ صارمة، تهيئ لبناء عملية محاسبة تاريخية، نتساءل فيها عن مصيرنا، وسط رُكَام الخراب الذي حَوَّل كثيراً من مدننا إلى أتربة وخلاء، حيث تتجه فلول المهجَّرين من الهاربين نحو المجهول.
ماذا يمكن أن نفعل، ونحن نلاحظ تنامي مظاهر الخراب والعنف؟ كيف نواجه مظاهر عوداتنا المجنونة إلى الموروث وقيمه لتوطينها في حروب بالوكالة، حروب تستخدم فيها أساليب همجيَّة كثيرة عاكسة لصور معاناة شبابنا وضياعهم؟ فما الذي يدفع شبابنا إلى الانتصار لقيم وثقافة لا علاقة بينها وبين حاضرنا ومكاسبه في المعرفة وفي الحياة؟ أعتقد أن محاسبة الذات، وفي هذا الظرف، تتيح لنا مجابهة عِلَلِنا من دون تَرَدُّد ولا تأجيل، فقد أصبحنا ندرك، وربما أكثر من أي وقت مضى، بأن الهيمنة المطلقة لتصوُّرات سائدة عن ذاتنا وتاريخنا، تمارس عمليات محاصرة لطموحاتنا التاريخية في النهضة والتقدُّم..
يبدو أننا في حالة عجز شامل، وأن تدبير مقتضيات ما يقع في مجتمعاتنا يتم بطريقة لم نعد ندرك نظام إيقاعها، وكيفيات حصولها، فعندما يُصْدِر غُلاَة المتطرفين فتاوى القتل والتكفير، ولا يجدون أي حرج في تدريب شبابنا على تفجير أجسامهم، وحصد أرواح الأبرياء في كل مكان، فإن أوضاعنا العامة تزداد بؤساً وشقاءً. ولهذا، لا مفرَّ، في نظرنا، من أن نحاسب أنفسنا، وذلك بوقف مسلسل المخاتلة والحسابات الصغيرة، التي تولي أهمية زائدة لمنطق المؤامرة، متناسية أدوارنا المؤكدة في كل ما وقع ويقع داخل مجتمعاتنا، فهل نستطيع القيام بذلك؟

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".