عن صعود اليمين العنصري في أوروبا

عن صعود اليمين العنصري في أوروبا

14 ديسمبر 2015
+ الخط -
تصريحات المرشح الجمهوري للرئاسة ورجل الأعمال الأميركي، دونالد ترامب، ضد المسلمين، أثارت ضجةً وجدلاً واسعين، داخل أميركا وخارجها، لكن هذه التصريحات، ليست إلا أحد التعبيرات الفجة عن صعود خطاب اليمين الراديكالي العنصري في الغرب، والذي يرى في المهاجرين المسلمين خطراً يستدعي التحشيد لمواجهته، تحت عناوين محاربة الإرهاب. في أوروبا، يمكن رصد الصعود السياسي لأحزاب اليمين "المتطرف" منذ عقدين على الأقل، وقبل أحداث "11 سبتمبر" وتداعياتها، مع الإقرار أن هذه الأحداث زادت الصعود اليميني بشكل نوعي، لكن هذا الصعود لا يُعزى إلى عامل الخوف الأمني فقط، فظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي تُنَميها أحزاب اليمين الراديكالي، وتتخذها وسيلة للصعود السياسي، تتعلق بتضافر عوامل سياسية واقتصادية وثقافية.
لا بد من التفريق بين اليمينين، التقليدي والجديد أو "المتطرف"، فالحديث، هنا، عن أحزابٍ، مثل الجبهة الوطنية الفرنسية، والحزب النمساوي اليميني الشعبي، وحزب الشعب الهولندي، وهذه الأحزاب تختلف عن اليمين التقليدي، في أنها تتميز، بشكل أساسي، بالعداء للمهاجرين، وفوبيا الأجانب، حيث تقوم هذه الأحزاب بمزايدة يمينية حول المحافظة على التقاليد القومية التاريخية، ونمط الحياة والهوية في بلدانها، وتؤكد نظرة شوفينية للرفاهية، بمعنى أنها تطالب الدولة بسياسات رفاه لأبناء الأمة من دون الأجانب.
لدى عدد من أحزاب اليمين الجديد تصور، أيضاً، فيما يخص رفض الاندماج الأوروبي، وتأكيد تشديد العقوبات على الجرائم، وحفظ الأمن والنظام، لكن القاعدة الأساسية لعمل هذه الأحزاب، ووسيلتها لحشد الجماهير وراءها، تتمثل في رفض التعددية الثقافية، والعداء للمهاجرين، بوصفهم خطراً أمنياً، وسبباً لتفشي البطالة بين "السكان الأصليين".
تُفسر الأزمات الاقتصادية داخل أوروبا، في السنوات الأخيرة، جزءاً من صعود الأحزاب اليمينية، إذ دفعت زيادة معدلات البطالة شرائح اجتماعية متضررة لتبني خطاب اليمين، فهذه الشرائح لم تتكيف مع اقتصاد الخدمات في عصر العولمة، الذي يبحث عن اليد العاملة الرخيصة بين كل الجنسيات، ووجدت نفسها مهمشة اقتصادياً، وحتى في ألمانيا، حيث ينتعش الاقتصاد، أصلاً، بفعل المهاجرين، ولا تُطرح قضيتهم بوصفها أزمة اجتماعية، بدأت تظهر مواقف شعبية، تؤكد مشكلة مع المهاجرين، خصوصاً مع تزايد حركة الهجرة، في السنوات الأخيرة، وبالذات من الوطن العربي، هرباً من الحروب الأهلية فيه، وكذلك مع حصول تراجع اقتصادي، بعض الشيء في الفترات الماضية، ويبدو أن شريحة المتضررين من اعتماد الاقتصاد الألماني على المهاجرين سترفد حركة "بيغيدا" المعادية للإسلام، وهي حركة تناهض "أسلمة الغرب"، وتدعو إلى طرد المسلمين من أوروبا، وعلى الرغم من أنها لا ترفع شعارات اقتصادية، بل تركز على البعد الثقافي في العداء للمهاجرين، إلا أن قدرتها على الحشد مرتبطة، أساساً، بشعور فئة من الألمان بالضرر نتيجة حركة الهجرة.

لكن العامل الاقتصادي لا يفسر وحده صعود خطاب اليمين الراديكالي ضد المهاجرين المسلمين، وبحسب الباحث رابح زغوني، فإن أحزاباً يمينية متطرفة كثيرة حققت نجاحات انتخابية قبل ظهور الأزمات الاقتصادية في أوروبا، كما أن بعض الدول التي شهدت صعود تيارات اليمين الراديكالي، لم تعانِ من آثار الأزمات الاقتصادية، خصوصاً دول الرفاه في شمال أوروبا. والمصوتون لهذه الأحزاب، أيضاً، ليسوا فقط من العمال أو الطبقة الوسطى، بل ينتمون إلى شرائح مختلفة، منها طبقة التجار.
في هذه الحالة، لا بد من العودة إلى العامل الثقافي، واستخدامه، أيضاً، في تفسير صعود الخطاب اليميني العنصري، وهذا يعيدنا إلى ما بعد الحرب الباردة، حين انتشرت فكرة صدام الحضارات بين مجموعة من النخب السياسية والثقافية الغربية، في محاولة لإيجاد بديل صراعي عن الشيوعية السوفييتية، للإبقاء على شد العصب الشعبي، والتراص الغربي في مواجهة عدو، وقد عبّر عن هذه الفكرة صامويل هنتغتون بوضوح في كتابه الشهير، وهي ليست فكرة هامشية في السياسة الغربية، فهي موجودة عند مجموعة من نخب اليمين واليسار التقليدي، بشكل أو آخر، وما فعلته أحزاب اليمين الجديد أنها عبّرت بشكل أكثر صراحة وفجاجة عن هذه الفكرة، وعن التعاطي الأوروبي مع الجاليات المسلمة، وفق الإرث الاستعماري، والدفاع عن هوية "مسيحية" لأوروبا، ضد التغلغل الإسلامي فيها.
لا يفرض المهاجرون المسلمون تحدياً اقتصادياً وحسب، فبالنسبة لشرائح ليست بسيطة من المجتمعات الأوروبية، يطرح المهاجرون المسلمون تحدياً ثقافياً، يتعلق بتهديد نمط الحياة الغربي، والهوية والثقافة الوطنية في البلدان الأوروبية. وفي هذا الإطار، نصَّبَت أحزاب اليمين الراديكالي نفسها مدافعة عن "التميز" الثقافي والحضاري الأوروبي، في مواجهة ثقافات "دونية"، وهذا مكّنها من استثمار حالة الخوف التي يشعر بها مواطنون أوروبيون، في تحقيق نجاحاتٍ انتخابيةٍ مهمة، وباتت تنافس الأحزاب التقليدية على مقاعد البرلمان، وتدخل في التشكيل الحكومي في بعض البلدان.
يشير عالم الاجتماع البولندي، زيغمونت باومان، إلى أن العولمة لم تقم بتوحيد الثقافات، كما كان يتوقع بعضهم، فهي تُفَرِّق بقدر ما تُوَحِّد، وتخلق اختلافات جديدة، ما يطرح تحدياً على فكرة التجانس التام، أو ابتلاع ثقافةٍ أخرى. صعود اليمين الراديكالي مؤشر على صعوبات كبيرة، تواجهها مفاهيم التعددية الثقافية في أوروبا، وعلى وجود أزمات هوية هناك، تستحق دراستها بتعمق.


9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".