موارنة لبنان ودوامة الرئاسة

موارنة لبنان ودوامة الرئاسة

13 ديسمبر 2015

ترشيح فرنجية فتح معركة الرئاسة مجددا في لبنان

+ الخط -
تكاد رئاسة الجمهورية في لبنان أن تتحول إلى كابوس بالنسبة للطائفة المارونية، بعد أن شكلت، على مدى عقود، موقع السلطة شبه المطلقة، ومصدر نفوذ لشخصيات مهمة وأقل أهمية. لبنان والموارنة صنوان، وكذلك الرئاسة، في نظر الطبقة السياسية المارونية، فهم أصحاب فكرة الكيان اللبناني، وهم من سعى إلى قيام دولة لبنان في بداية القرن الماضي. وقد أصبحت الرئاسة، منذ الاستقلال عام 1943 ولغاية عشية انفجار الحرب عام 1975، الركيزة الأساسية والعصب الفعلي للنظام، ولما كان يعرف بـ "المارونية السياسية"، وتحولت إلى طموح لدى كثيرين من الموارنة، إلى درجة أن كل واحد منهم بات يعتبر نفسه مرشحاً.
ولا يزال، اليوم، بعض الأقطاب وأصحاب النفوذ وقسم من الجمهور يتوهمون أن رئيس الجمهورية هو المنصب الأهم في تركيبة السلطة الحالية، على الرغم من أنه لم يعد مطلق الصلاحيات، ولا يتمتع بامتيازات استثنائية، كما كان في الماضي، وإنما هو مؤتمن على تطبيق الدستور، ويضطلع بدور الحكم بين اللبنانيين، وليس الحاكم. وقد أعاد "اتفاق الطائف" (1989) تكوين السلطة على قاعدة التوازن بين السلطات، بعيداً عن الديموغرافيا وحجم كل طائفة، فأرسى مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، على الرغم من أن الآخرين باتوا يشكلون الأكثرية.
إلا أنه في المقابل، شرعنت سلطة الوصاية السورية عملياً "تطييف" آلية الحكم عبر ابتداع صيغة "الترويكا"، أي تثبيت ركائزه الطائفية الثلاثة (رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان)، الموزعة على الطوائف الرئيسية الثلاث (الموارنة والسنة والشيعة)، وهذا ما لا يلحظه الدستور رسمياً. وبات كل من رئيسي البرلمان والحكومة يعتبر نفسه بمثابة الرئيس، ودرج، في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، استعمال مصطلح "الرؤساء الثلاثة". ويقوم رئيس مجلس النواب بتخطي دوره التشريعي والرقابي، ويتدخل في شؤون السلطة التنفيذية وعمل الحكومة، بهدف تقاسم السلطة والنفوذ، واقتطاع حصته "عالسكين يا بطيخ"، كما يحلو له أن يردد هو شخصياً. وها هو اليوم نبيه بري يجلس على كرسي رئاسة المجلس منذ 23 سنة من دون انقطاع، فيعاد انتخابه أو التجديد له كل أربع سنوات. فيما يتبدل رئيس الحكومة كل سنتين أو كل سنة أو حتى أقل، تبعا للظرف السياسي الذي يدفع رئيس الحكومة إلى تقديم استقالته.
أما عن رئيس الجمهورية فحدث ولا حرج، فمدة ولايته الدستورية ست سنوات، لكن المنصب
شاغر حالياً للمرة الثانية منذ أكثر من سنة ونصف السنة، وقد شغر، في المرة الأولى عام 2007، ستة أشهر، ولم يُعَد انتخاب رئيس جديد إلا بعد توقيع "اتفاق الدوحة" إثر اجتياح حزب الله بيروت في 7 مايو/أيار 2008. ولم يتم، بطبيعة الحال، انتخاب رئيس من الأكثرية النيابية يومها (قوى 14 آذار)، وإنما جيء بقائد الجيش "رئيساً توافقياً" بين طرفي المواجهة. وقد سبق ميشال سليمان في سدة الرئاسة عسكري وقائد جيش آخر، هو إميل لحود، الذي مددت له السلطة السورية ثلاث سنوات إضافية. وكان لحود قد خلف عام 1998 الياس الهرواي الذي تم التمديد له أيضا في 1995 بقرار اتخذه حافظ الأسد، وتبلغه اللبنانيون عبر مقابلة أجراها الرئيس السوري مع صحيفة الأهرام المصرية. وقبل الهراوي، تم انتخاب رينيه معوض فور التوقيع على اتفاق الطائف عام 1989، واغتيل بعد سبعة عشر يوما من انتخابه بعد فراغ دام سنتين ومواجهات عسكرية دامية، قادها قائد الجيش يومها ميشال عون، الذي احتل القصر الجمهوري ونصّب نفسه رئيساً...
وها هو التاريخ اليوم يعيد نفسه (!) عبر الجنرال السابق الماروني ببذلته المدنية على رأس تيار سياسي، وما زالت تدغدغه أحلام كرسي الرئاسة، وقد تخطى الثمانين، وهو من يعطل، منذ أكثر من سنة ونصف السنة، انتخاب رئيس للجمهورية، ما لم يتم انتخابه هو شخصياً للمنصب. وهو يستعين على التعطيل وحال الشلل المؤسساتي بحليفه حزب الله الذي يقف الى جانبه، ويقومان معاً بتهريب النصاب بامتناع نوابهما عن النزول إلى البرلمان، ومقاطعة جلسات انتخاب الرئيس. ويتضامن معهما في هذا الموقف معظم القوى الملحقة بفريق 8 آذار أو ما يسمى "محور الممانعة"، الذي يضم "حركة أمل" (غير المقاطعة) التي يتزعمها بري وبقايا حزب البعث والحزب القومي السوري. كما أنه يضم أيضا تياراً شمالياً تتزعمه شخصية مارونية أخرى، هي سليمان فرنجيه، حفيد الرئيس السابق سليمان فرنجيه، والذي يتباهى بصداقته الشخصية مع بشار الأسد، ودعمه حزب الله منذ بداية التسعينيات.
وفي ظل هذا الأفق الرئاسي المسدود، والواقع السياسي العام المأزوم، فاجأ سعد الحريري، زعيم تيار المستقبل وزعيم قوى 14 آذار حلفاءه، قبل أخصامه، بتبني ترشيح فرنجيه للرئاسة، معتقداً أن من شأن ذلك أن يحدث انفراجاً في الأزمة، ويحل مشكلة الرئاسة. أي أنه ذهب إلى حد القبول بخصم لدود وعنيد رئيساً، ما اعتبره الحلفاء والأصدقاء بمثابة إعلان استسلام من الحريري، إلا أن المفاجأة جاءت من حلفاء فرنجيه وأصدقائه "الممانعين"، وفي مقدمتهم عون الذي رفض تبني ترشيح فرنجيه، معتبراً أن ذلك إهانة له وتخطٍّ لزعامته، وهو صاحب الشعبية الأوسع والكبرى في الوسط المسيحي، ومهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، إلى درجة أن حزب الله تدخل متوسطا لتسهيل عقد لقاء بين الاثنين. وتدور اليوم مواجهة شبه معلنة ومكشوفة بين قطبين مارونيين، ينتميان إلى التحالف نفسه، عون الذي تخطى الثمانين وفرنجيه الشاب ابن الخمسين الذي يبدو بمثابة ابن الجنرال، فيما تقف القوى الأخرى متفرجة، مذهولة وشامتة.
وهكذا، تدور رحى معركة ضارية بين طامحين ومتهافتين على رئاسة لبنان، أين منهم بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب والياس سركيس... طامحون تنقصهم القامة والخامة والمعرفة والثقافة والنظرة الثاقبة، ورئاسة باتت مفرغة من مضمونها ودورها الريادي والسيادي، أسيرة صراع ديوك الموارنة والصراع الدائر منذ سنوات بين الشيعة والسنة، الذين سيقررون عملياً هوية الرئيس الجديد، إذا ما سمحت بذلك المواجهة الإقليمية بين إيران والسعودية. رئيس كان لعشرات السنين يُعين من دمشق، وينضبط بإيقاعها.
وتبقى الرئاسة في لبنان اليوم، وحتى إشعار آخر، رهينة حزب الله المدجج بالسلاح الذي يمنع على الرئاسة وعلى الدولة أن تمارس سيادتها وسلطتها على كل الأراضي اللبنانية.


5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.