جمهورية الخوف الهزلية

05 أكتوبر 2015
+ الخط -

(5)

لا تقل لي إنك لم تفكر في هذه الأسئلة أخيراً: لماذا قرر عبد الفتاح السيسي أن يتصدى بنفسه لترويج أوهام المؤامرة الكونية وحروب الجيل الرابع، بعد أن ظل يلعب بها من بعيد لبعيد طيلة عامين؟ لماذا أطلقت رئاسة الجمهورية، لأول مرة، برنامجاً شبابياً تابعاً لها على طريقة طلائع الفاشية وشبيبة النازية، لحشو أدمغة شباب السيسي المختارين بأوهام الخبراء الاستراتيجيين؟ ولماذا تسمح القوات المسلحة لقيادي سابق فيها، مثل اللواء حسام سويلم، المدير السابق لمركز البحوث الاستراتيجية في القوات المسلحة، بأن يظهر في الإعلام مردداً خزعبلات منقولة من غياهب الإنترنت، تتحدث عن مؤامرات المجلس الأعلى للعالم التي توقع الزلازل، وتسقط الروافع، وترسل الصواعق، لتصيب بها من تشاء؟ وهل يصدق حقاً جميع قادة القوات المسلحة الذين صرفت البلاد دم قلبها على تعليمهم المتقدم في بلاد الغرب، ما يردّده زملاؤهم الخبراء من أصحاب الأقدمية عن المؤامرات الكونية، كما يصدق قائدهم الأعلى أنه طبيب الفلاسفة وملهم السياسيين ورجال المخابرات؟ أم أن فكرة بحث صدقها من كذبها ليست واردة، بعد أن ثبت تأثيرها الشعبي، حتى على المتعلمين من ماركة الهلالي الشربيني، وضحايا ثقافة التلقين والحشو و"الكوبي آند بيست"؟ ولماذا لا يزال مثقفو التفويض وأنصار وهم القائد الإصلاحي مصممين، بعد كل ما جرى، على خداع أنفسهم بإنكار مسؤولية السيسي، ونظامه، عن نشر كل هذه الخرافات، خطيرة التأثير، بشكل ممنهج في وسائل الإعلام، خصوصاً بعد أن ثبتت قدرة النظام على حجب من يتجاوز تأثيره الحد المطلوب، كما حدث من قبل للواء المخابرات ثروت جودة الذي تم إسكاته، حين قال أكثر مما هو مسموح به عن دور جهاز المخابرات في إدارة الحياة السياسية في مصر؟ وأخيراً: هل سينجح السيسي طويلاً في الحفاظ على إنجازه الفريد، إنشاء "جمهورية خوف هزلية" لم تشهد مصر لها مثيلاً من أيام سلاطين المماليك الغرائبيين؟      

 (6)

في تشريحه مفهوم (التلاعب بالوعي)، يتحدث العالم الروسي، سيرجي جيورجيفيتش، عن جائحات المشاعر، أو أوبئة المشاعر العامة التي جعلت الشعوب عبر التاريخ تصل، أحياناً، إلى حدود الهستيريا والجنون، وكيف كان ذلك يتم دائماً "بعد أن تقوم الأنظمة ببناء أو استغلال أزمة أو وضع خطير يؤثر في المشاعر، مثل كارثة كبيرة أو عنف دموي إرهابي، أو نزاع ديني أو قومي، أو إفقار حاد يصيب مجموعات كبيرة من السكان، أو نزاع سياسي ضخم. وفي ظل ظروفٍ كهذه، لا تكون السلطة بحاجة إلى ما هو أكثر من الانفعالات السائدة لدى الناس، والتي تجعلهم مستعدين لتقبل أي نوع من الأوهام. وهنا، يتم استخدام الخوف أداة للإدارة، بحيث يفقد المجتمع المعرّض لتأثير الخوف المفرط عقله الجماعي".

وفي حين لا يُنكر العالم الروسي في كتابه (التلاعب بالوعي) أهمية الخوف، أحياناً، للحفاظ على المجتمعات في مواجهة الأخطار، لكنه يؤكد أهمية أن يكون ذلك الخوف حقيقياً ونابعاً من خطر واقعي مدروس. أما إذا تم تحويله إلى خوف مفرط أو متوهم، فإنه يصبح مضراً للغاية، بل ومهلكاً في بعض الأحيان، لأنه، أحياناً، يؤدي إلى تعطيل الخوف الحقيقي المنقذ، ويجعل الإنسان يصل إلى عدم الاهتمام واللامبالاة.

في حديثه عن قوة وباء الخوف الجماعي، يستشهد جيورجيفيتش بما حدث في الولايات المتحدة الأميركية عام 1938، حين تم بث تمثيلية إذاعية بعنوان (غزو المريخ)، ليتعامل معها كثير من جمهور الولايات الأميركية الشرقية، بوصفها تقريراً خبرياً يصف حدثاً حقيقياً، فتنتج عن ذلك نوبات ذعر عامة، لم تكن ستحدث، لولا وجود عدم الاستقرار في المجال الانفعالي العام، بسبب الأزمة الاقتصادية الطويلة التي سببها الاكتئاب الكبير، والقلق الجماعي المصاحب لترقب اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولذلك، لم يكن غريباً أنه حين أعيد بث التمثيلية الإذاعية نفسها، ولكن بعد سنوات، في بلدان عانت من عدم استقرار اجتماعي واقتصادي، حدثت النتيجة نفسها التي حدثت من قبل في الولايات المتحدة، حيث أثار بث التمثيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 1944 ذعراً شاملاً في سانتياغو، عاصمة تشيلي. وفي فبراير/شباط 1949، انتهى الذعر الذي أثارته التمثيلية في كيتو، عاصمة الإكوادور، بسقوط ضحايا، والإصابة بعاهات وحرق مبنى الإذاعة.

ولك أن تتخيل أن ذلك الذعر الجماعي يمكن أن يحدث ببساطة، لو تم تكرار التجربة نفسها في مصر، بعد كل ما جرى من تلاعب ممنهج بوعي المصريين، وزرع مخاوف لا تنتهي في عقولهم ووجدانهم، لكي يلبدوا أكثر في أحضان دولة اللواءات، التي يقول رئيسها صراحة للمصريين، إنها باتت السبب الوحيد لحمايتهم من الغرق في قوارب الهجرة الجماعية، أو البيات في معسكرات اللاجئين، أو اغتصاب بناتهم على أيدي شُذّاذ الآفاق.

(7)

لكن، يبقى أن قدرة أي نظام على التلاعب بالوعي وتحقيق الإدارة بالخوف، كما يؤكد سيرجي جورجيفيتش، تزيد حين ينجح في عزل شعبه عن التأثيرات الجانبية، بمنع وجود مصادر معلومات أو آراء بديلة غير خاضعة للمراقبة. وحين يصعب على النظام أن يحقق ذلك بشكل كلي، كما هو الحال في الدول الرأسمالية التي ترفع الشعارات الليبرالية، يكون مهماً أن يقوم بتشكيل وهم الاستقلالية لدى المتلقي، وتغذية وهم تعددية قنوات المعلومات، "من خلال بناء تنوع ظاهري في وسائل الإعلام، في حين أن هذه الوسائل المتنوعة تخضع لأحكام رئيسية واحدة. وبالتالي، يمكن لبعض هذه الوسائل أن تلفظ أقذع النعوت بحق السلطة، طالما لم يمس ذلك الجوانب الجذرية التي تهدد وجود النظام، إذا تمت مناقشتها بجدية. والمهم، هنا، أن يتم التحكم في مخصصات المواطن من المعلومات، حتى لو تمت زيادة نصيبه من الآراء التي تشتم أو تهاجم، المهم ألا تساعده وسائل الإعلام على تكوين تصور كامل مترابط ومنطقي عن الواقع".

يمكن في ظل ربط هذا التوصيف بفكرة وجود دولةٍ ليست ناجحةً إلا في القمع والأذى، أن تفسر كيف ولماذا يتعرض للتنكيل أو التهميش كل صوت إعلامي يحاول مساعدة الناس على التفكير والتحليل، بينما لا تحارب السلطة بالقدر نفسه وسائل الإعلام المعارضة التي تلجأ إلى الصوت العالي والغوغائية، لأنها، في نهاية المطاف، تصب في مصلحتها، لأن الطاقة التي يفرغها الإنسان في اللعنات والشتائم، تجعله يشعر براحة كاذبة، وتعفيه من عناء التفكير والسعي إلى تغيير واقعه، وأن تفسر، أيضاً، لماذا تتسامح السلطة العسكرية ـ الأمنية الحاكمة مع وجود مواقع إلكترونية معارضة تدرك ضعف انتشارها في مجتمع لا يقرأ، بينما تضرب بيد من حديد كل محاولات إنشاء محطات تلفزيونية مستقلة، إلى درجة أن إنشاء قناة تلفزيونية من أي نوع في مصر يحتاج إلى موافقة مباشرة من جهاز المخابرات العامة، في حين لا يشترط ذلك في إنشاء صحيفة أو موقع إلكتروني، حيث تتدخل الجهات الأمنية، لاحقاً، لتحجيم أثر انتشار الصحف والمواقع الناجحة، سواءً بتشويه سمعتها، أو ملاحقتها قانونياً، أو اللجوء إلى ضربها أمنياً وقضائياً، إذا تخطت كل الخطوط الحمراء، وفي مقدمتها أن تصل إلى أكبر جمهور ممكن وفاعل.     

(8) 

ختاماً: ليس هناك رهان أقوى لدى الأنظمة القمعية من الرهان على ضعف الذاكرة الجمعية. ولذلك، تعمل، عبر السنين، على مقاومة كل مؤسسات تنشيط الذاكرة، بوسائل عديدة، منها احتكار حق إنشاء المتاحف والأرشيفات العامة، وتحويل ما تم إنشاؤه منها بالفعل إلى أماكن شبه مهجورة، ومحاربة كل محاولات صناعة ذاكرة بديلة، عبر مناهج التعليم والأعمال الدرامية والفنية، لضمان سيادة الطبعة المسموح بها من رواية ما جرى في البلاد وللعباد، فحين يحدث ذلك، يستطيع النظام القمعي أن يحذر الناس من الذئب في كل مرة، فيخاف الناس من الذئب في كل مرة، من دون أن يروه، ليفوّضوا النظام على بياض، في كل مرة، ليحميهم من الذئب الذي لم يروه أبداً ولا مرة.

قد يحقق هذا التلاعب بالذاكرة الجمعية استقراراً مرحلياً للنظام القمعي، لكن خطورة تكرار هذا الكذب بلا حساب، كما يشير الفيلسوف الفرنسي جي ديبور في كتابه (مجتمع الاستعراض)، أنه "يؤدي إلى اختفاء الرأي العام الذي يجد نفسه، في البداية، غير قادر على إجبار نفسه على الاستماع، ومن ثم سرعان ما يصير غير قادر على أن يصاغ، بعد أن يفقد المقدرة على التحليل النقدي، ويخرج من نظام الحوار". وبالطبع، تفرح السلطة الغاشمة الغشيمة، حين يختفي الرأي العام النقدي والفاعل، لأنها تحب أكثر الرأي العام الذي يلعب دور الجمهور المصفق والمصدق لمختلف التفاهات والخرافات التي تلقي بها إليه، لكنها لا تدرك خطورة مسخ إنسانية شعبها، إلا حينما تجده، وقد تحول، مع الوقت، إلى جماد غير منتج، فلا تجدي عندها كل خطابات تقريعه ولومه، لأنه لم يحقق لهذه السلطة أحلامها في الإنجاز والإنتاج، بل إن محاولتها قمعه، إما بالقوة المسلحة أو بسلبه امتيازاته، تدفعه إلى رد فعل عنيف ومدمر، وهبات عشوائية غاضبة.

ولأن السلطة تدرك ذلك، تحاول إطالة أمد الامتيازات الممنوحة لشعبها فاقد الإنسانية، مهما قل إنتاجه وكثرت مشكلاته، لتأخير اندلاع تلك الهبات، وليستمر الشعب المنهك في تواطئه مع الجرائم التي ترتكبها السلطة، طالما ظلت تحرص على ضمان الفتات الملقى إليه بانتظام، لتكون النتيجة مزيداً من الانحطاط الإنساني والحضاري الذي تراه حولك في كل مناحي الحياة في مصر، وهو انحطاط لن ينجو من دفع ثمنه أحد، خصوصاً الذين استثمروا فيه، من أجل بقاء مصالحهم قائمة على عروشها.

belalfadl@hotmail.com

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.