الانفصال عن نموذج داعش

الانفصال عن نموذج داعش

25 أكتوبر 2015
+ الخط -
خطر "داعش" على دول الخليج تجلَّى بشكل عملي خلال عام، فقد حوّل التنظيم تهديداته إلى عملياتٍ يستهدف فيها هذه الدول، بدأت العام الماضي أمام حسينية في قرية الدالوة في الأحساء (شرق السعودية)، وتبعتها عمليات في السعودية والكويت، استهدفت المواطنين الشيعة في مساجدهم وحسينياتهم، والعاملين في القطاعين الأمني والعسكري. استهداف المواطنين الشيعة، ورجال الأمن والعسكريين، هدفه إحداث حالة فوضى، عبر ضرب المكوّنات الاجتماعية ببعضها من جهة، وإضعاف الأجهزة التي تصون استقرار هذه الدول من جهة أخرى. ولا يبدو التنظيم في وارد التراجع عن حرب "الإنهاك" هذه، فقد استهدف، أخيراً، تجمعاً للمواطنين الشيعة في مدينة سيهات، شرق السعودية، في موسم عاشوراء، ما يجعل النقاش مستمراً بشأن الطرق الأنجع لصد خطر هذا التنظيم الذي يتهدّد الجميع في الخليج العربي. 

كان تنظيم داعش فاعلاً منذ الاحتلال الأميركي للعراق (بمسميات مختلفة)، وقد مر بمراحل، في بعضها كان في أسوأ أحواله، لكنه انتعش في السنوات الماضية، بفعل الصراعات الدامية في الهلال الخصيب، وبالذات في سورية، حيث سمحت الحرب هناك له بالتمدّد وملء الفراغ. ينتعش هذا التنظيم بوضوح في ظروف انهيار الدولة أو تآكلها، وهيمنة الصراعات الأهلية على المشهد، أي أن طبيعة الظرف السياسي مهمة في بروز هذا التنظيم، وفي فهم استراتيجيته وتكتيكاته، وربطها أيضاً بالهوية التي يعبّر عنها، ويتحرّك لتوكيدها، وكل هذا يمكن أن نسميه "نموذج داعش" الذي ينبغي التناقض معه، ومحاربته، لصد خطره.
نموذج "داعش" وليد أمرين تزامنا، هما الاحتلال الأميركي للعراق، وقيام النظام الطائفي برعاية الحاكم الأميركي بول بريمر، وما أنتجه من فتنة طائفية، ساعدت في جعل أولويات هذا التنظيم متعلقة بمحاربة "العدو القريب"، المتمثل بالمكونات الاجتماعية المختلفة، وبالذات الشيعة، والأنظمة العربية بجيوشها وقواها الأمنية. تساهم الأيديولوجيا الدينية التي يعتنقها داعش، والهوية المتبناة من هذا التنظيم، في إظهار تميّزه بسلوك "إبادي"، فالهوية تمثل قمة التطرف السلفي الذي يجد في إقصاء الآخرين وإلغائهم هدفاً وغاية، ولا يمكنه التعايش مع التنوع الاجتماعي. وفي هذا جزء من تفسير سلوك التنظيم الذي يقود إلى تفتيت المجتمعات العربية، وإشعال الصراعات فيها، باستهداف المختلفين، ومحاولة إيجاد مجتمع شبه متجانس لحكمه والسيطرة عليه، واستخدام القوة لفرض أجندة دينية محددة، والتطلّع إلى نموذج يطبّق الشريعة، وفق الفهم السلفي الإقصائي.

هذا يُحتِّم على الراغبين في مواجهة خطر التنظيم الانفصال عن نموذجه بالكامل، بما يعني تقديم خطاب يناقض خطاب داعش والهوية التي يتبناها، وهذا يتطلب الانتقال من الالتزام بهويات ضيقة، تُعبّر عن مجموعة دينية محددة، وتحمل نَفَسَاً إقصائياً تجاه شرائح من المواطنين، إلى تبني هويات تستوعب المواطنين جميعاً، وتمثِّل المشترك بينهم، ولا يكون المُكوِّن الديني داخلها مهيمناً عليها، أو ممثلاً لحالة إقصائية. يعني هذا الانتقال إلى تعريفٍ للدولة، يسمح بسلوكٍ من نوع محدد داخلياً وخارجياً، يتحلّى بروح المسؤولية تجاه قضايا أساسية عربياً، مثل محاربة الطائفية، والحرص على وحدة المجتمعات العربية، في مواجهة أخطار التفتيت والانهيارات، ويبذل الجهد لإنهاء حالة الاحتراب الأهلي، وإنهاء الظروف التي تعزز تمدد داعش في الهلال الخصيب، وتجعله مركزاً لها، تنطلق منه لإنهاك المجتمعات العربية الأخرى.
للانفصال عن نموذج داعش ترجمة في ما يخص المسألة الطائفية في الخليج تحديداً، والتعاطي مع "الأقلية الشيعية" في هذه الدول، إذ تطلب الأقلية الاعتراف بها ضمن هوية الدولة ومؤسساتها، وهذا يتطلب استراتيجية إدماج وطني، على أساس المواطنة، وهوية مشتركة بين الشيعة وبقية المواطنين (ولا نجد غير الهوية العربية هنا تعبيراً عن هذا المشترك)، لكن الإدماج ومحاربة الطائفية قد يبدآن على الأقل بأمرين أساسيين. الأول، إنهاء مظاهر الكراهية المذهبية في مؤسسات الدولة، والقيام بحملة جدية لإنهاء الكراهية والتمييز داخل هذه المؤسسات، لتصبح معبّرة عن المشترك بين المواطنين، وعلى الأقل، لا تعبّر عمّا يناقض الوحدة الوطنية.
الأمر الثاني، يتمثل بصياغة خطاب إعلامي وسياسي، لا يجعل من إيران والشيعة مترادفات في وسائل الإعلام والخطابات الرسمية، وهذا الفصل ضروري، ليس لرفض تمثيل إيران الحالة الشيعية إقليمياً فحسب، بل أيضاً لأن التنافس مع إيران إقليمياً لا يمكن أن ينجح باستخدام أدبيات طائفية، تستخدمها تنظيمات، مثل داعش، بما يعزز شرعية خطاب داعش وإخوتها، وهذا يتطلب مشروعاً لا يرعى طائفة في مواجهة رعاة طائفة أخرى، ويتنافس مع فاعلين آخرين على رعاية الطائفة، بل يَعبُر الطوائف، لتحصين المجتمعات العربية من أخطار الانقسام على أساس الهوية المذهبية.
ليس من السهل كسب المعركة ضد تنظيم داعش، بالتأرجح بين محاربة النموذج واستخدام بعض أدبياته ومكونات هويته، إذ يزيد هذا الأمر من قدرة داعش على المزايدة بخطابها، في ظل تنافسٍ على شرعية تمثيل هذه الأدبيات، يفرضه الاشتراك فيها، ما يعني أن المطلوب هو القطع مع النموذج، بكل ما يمثله، ومناقضته بنموذج يحد من قدرته على الحركة، وطالما نعرف أن هذا التنظيم يعتاش على الانقسامات، فإن مواجهته تكون برفض هذه الانقسامات، ومعالجة الأزمات الناتجة عنها.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".