تفكيك خرافة "فطير صهيون" أو "فرية الدم"

تفكيك خرافة "فطير صهيون" أو "فرية الدم"

03 أكتوبر 2015

يهود يجهزون الخبز لعيد الفصح اليهودي في القدس (مارس/2015/Getty)

+ الخط -
يُقصد بـِ "فرية الدم" التي تُلصق باليهود، عادة، أن لدى اليهود طقساً دينياً يحتاجون لإتمامه إلى دم طفل أو شاب مسيحي. وهذا الدم يُخلط بعجين الفصح اليهودي (الماتزوت)، ويُقدم في احتفال خاص بهذا العيد. وتعود هذه التهمة إلى منتصف القرن الثاني عشر، عندما بدأ اليهود يظهرون في أوروبا مرابين نشطين وذوي حضور مالي، فتحولوا في المخيلة الشعبية، وفي لغة العامة، إلى "مصاصي دماء". وساعد في رسم هذه الصورة مخزون الذاكرة المسيحية المملوء بالكراهية لليهود، لأنهم "قَتَلة المسيح". لكن هذه الفرية ما لبثت أن راجت كثيرًا في ألمانيا، ابتداء من سنة 1247 ميلادية فصاعدًا، وسرت في النفوس والأَفهام سريان النار في العشب اليابس، الأمر الذي دعا البابا إينوسنت الرابع إلى نفي هذه التهمة عن اليهود، في منشور بابوي أصدره في 5 /7/ 1247، وهو المشهور بعدائه الشديد للتلمود وللتعاليم التلمودية ولليهود معًا.
لم تكن هذه التهمة مقصورة على اليهود وحدهم، فقد اتُهم بها الغجر في أوروبا أيضاً، والزط والقرباط (النَوَر) في المشرق العربي، حيث راجت خرافات عن أن هذه الجماعات تختطف الأطفال لاستخدامهم في التسول أو الرقص. وكنا ننصتُ بخوفٍ إلى الحكايات التي تحذرنا، حين كنا صغاراً، من الاقتراب من هذه الجماعات أو مصاحبة الغرباء. حتى إن الخيال العدائي اشتطّ، إلى حد تصوير كل مَن له نمش في وجهه أو يديه بأنه يهودي، وبأن هذا النمش علامة دم المسيح الذي صلبه اليهود في القدس، وأن اليهود يختطفون الأطفال، ويضعونهم في سرير على جانبيه صفوف من المسامير. وحين يحركون السرير كما تحرك الأم سرير طفلها، تنغرز المسامير في جسد الطفل، ثم يسيل دمه، فيستعملونه في صنع "فطير الفصح". ولم يطل الأمر كثيراً حتى اكتشفنا أن هذا كله هراء، وأن المنمّشين مسلمون ومسيحيون. وعلى هذا المنوال، ساق الصينيون في سنة 1870 هذه التهمة ضد المبشرين المسيحيين، وشاعت التهمة إياها في مدغشقر في سنة 1891 طريقة لمواجهة الإرساليات التبشيرية، وتخويف الناس من هذه الأقوام الوافدة إليهم، والتي من شأن ترويج دينها أن تتهدد عقائدهم الموروثة.

دحض الخرافة
المعروف أن التوراة والتلمود يحظران على اليهودي في الحياة اليومية، وفي أثناء الاحتفال بعيد الفصح (بيساح بالعبرية)، ملامسة أي جسد ميت. واليهود، كالمسلمين، يعتبرون الدم نجساً، ولا يجوز مسّه، لا في احتفالات الفصح، ولا في بعض الأعياد الأخرى، ولا يجوز أكله في سائر الحالات، يهودياً أَكان هذا الدم أم غير يهودي. أما فطير الفصح اليهودي، فلا يدخل فيه أي شيء حتى الخمائر. وسفر التكوين (4:9) يوضح هذا الأمر تماماً فيذكر: "غير أن لحمًا بحياته (= بدمه) لا تأكلوه". ومثله يذكر سفر التثنية (23:12): "احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس". وعلى الرغم من ذلك، انتشرت هذه التهمة في بلادنا، بالتحديد بعد حادثة دمشق التي وقعت في 15 /2/ 1840، والتي قُتل فيها الراهب توما الكبوشي، وخادمه المسلم ابراهيم عمارة. واتُهم يهود دمشق بهذه الجريمة، بحجة استخدامهم دماء الضحيتين في طقوسهم الدينية. وقد قُبض على بعض وجهاء اليهود المحليين، فمات اثنان منهم في أثناء التحقيق، وأشهر واحد منهم إسلامه، وحكم على الباقين بالإعدام.
أما القصة فهي على النحو التالي: ذهب الأب توما الكبوشي، وهو راهب فرنسيسكاني من سردينيا إلى حارة اليهود، لتلقيح أحد أبناء داود هراري بلقاح الجدري، ولم يعد. ولما تأخر في العودة، ذهب خادمه إبراهيم عمارة للتفتيش عنه فاختفى أيضاً. وساد الهرج والاضطراب والبلبلة، وإلقاء الاتهامات يميناً ويساراً، وتألفت لجنة تحقيق موسعة، ووقعت الشبهة على الحلاق اليهودي سليمان سلوم الذي "اعترف" تحت التعذيب أنه من ذبح الأب توما الكبوشي، بطلب من عائلة هداري، الغنية والمتنفذة، لقاء الوعد بتزويجه إحدى فتيات حارة اليهود في دمشق. وجرّاء الرعب الذي حاق باليهود آنذاك، أعلن الحاخام موسى أبو العافية ارتداده عن اليهودية، واعتناقه الإسلام، وبدّل اسمه إلى "محمد أفندي المسلماني". وفي ما بعد، استمر أهالي دمشق يخوِّفون أبناءهم، حين يعصون أوامرهم، بالقول لهم: "إجاكم أبو العوافي". وكان القصد تحذير الأبناء من اللعب بالقرب من اليهود، أو مع الفتيان اليهود. أما لماذا اختار الحاخام موسى أبو العافية أن يتسمى باسم محمد الأفندي المسلماني، فالمشهور أن كل من اعتنق الاسلام
يتكنى بكنية المهتدي، أو بكنية المسلماني، أو غيرهما مما يشير إلى هذا الأمر.
كانت هذه الحادثة تعكس، في الحقيقة، صراعاً وتنافساً بين اليهود الذين تمتعوا، وقتذاك، بالحماية الإنجليزية، والكاثوليك الذين تمتعوا بالحماية الفرنسية. وثبت في التحقيقات أن هذه التهمة سيقت بتحريضٍ من القنصل الفرنسي في دمشق. وفي نهاية التحقيق الذي رافقه تدخل القناصل، سقطت التهمة عن المحكوم عليهم بالإعدام، وأصدر السلطان عبد المجيد في 6 /11 /1840 فرماناً وصف فيه "تهمة الدم" بأنها غير صحيحة، واعتبرها قذفاً في حق اليهود، توجب إقامة الحد. ومع ذلك، حين سقط الطفل الدمشقي، هنري عبد النور، في إحدى الآبار بالقرب من حارة اليهود في سنة 1980 وغرق، عادت حكاية قتل الأطفال للظهور في دمشق القديمة مجدداً.
على هذا الغرار، كانت وقعت في ألمانيا في 1/ 4/ 1882 حادثة مماثلة، حينما اختفت فتاة مسيحية في الرابعة عشرة، تدعى أستير سوليموزي، واتُهم اليهود باستنزاف دمها. لكن المحاكمة برّأت ساحتهم. فانبرى أستاذ اللاهوت في جامعة مونستر، أوغست روهلينغ، إلى ترويج الدعاية القائلة إن اليهود يرتكبون المذابح التلمودية. وكان روهلينغ قد أصدر سنة 1871 كتاباً بعنوان "اليهودي التلمودي"، تحدث فيه عن هذا الأمر، ولاقى رواجاً كبيراً، وتُرجم إلى عدد من اللغات الأوروبية، لكن الحاخام جوزف بلوخ انبرى لدحض هذه التهمة، ورفع ضده دعوى القدح أمام محكمة فيينا التي استدعت خبراء من جمعية المستشرقين الألمان، ومن أساتذة جامعات لا يبزغ وستراسبورغ ودرسون. وفي سنة 1885، صدر حكم المحكمة التي وجدت أن روهلينغ لا يعرف العبرية، ولم يقرأ التلمود على الإطلاق، بل استقى معلوماته من كتب مرتدّين، أمثال أهرون بريمان، وقد تم تجريد الدكتور روهلينغ من ألقابه العلمية والأكاديمية، لأنه لم يستطع أن يثبت أياً من التهم التي ساقها ضد اليهود، ولم يتمكن من ترجمة بعض نصوص التلمود العبري إلى الألمانية، وظل منزوياً في منزله، حتى وفاته في 1931. وهذا الكتاب نقله إلى العربية الدكتور يوسف نصرالله في سنة 1898 بعنوان "الكنز المرصود في قواعد التلمود"، وعن هذا الكتاب، نقل معظم مَن أراد رمي اليهود بهذه التهمة. حتى إن كتاب الأب بولس حنا مسعد "همجية التعاليم الصهيونية" (1938) هو نسخة طبق الأصل عن الترجمة الفرنسية لكتاب الدكتور روهلينغ. ثم صدرت طبعة أخرى بعنوان "اليهودي على حسب التلمود"، ترجمها الدكتور يوسف حنا نصرالله، وقدم لها الدكتور محمد عزت نصرالله (بيروت: مؤسسة دار فلسطين 1970). والدكتور محمد عزت نصرالله، لعلم مَن لا يعلم، توّصل، باستخدام حساب الُجمّل (= القبالاه اليهودية)، إلى أن المسلمين الفلسطينيين اليوم هم أبناء سبط يهوذا الذين أسلموا في زمن عمر بن الخطاب، وأن زمن ظهور المسيح اقترب جداً، بل إن ظهوره سيكون، بالتمام، في سنة 1998، وإنه هو نفسه، أي الدكتور محمد عزت نصرالله، المسيح الموعود والمهدي المنتظر "المولود في مجدل عسقلان في طرف بيارة العسقلاني" (أنظر: محمد عزت نصرالله، "كتاب مفتوح إلى بنيامين نتنياهو"، بيروت: المركز الفلسطيني الإسلامي للتربية والثقافة والإعلام، د.ت.). وفي هذا الكتاب، يعترف الدكتور نصرالله بأن فلسطين هي الموطن التاريخي لليهود، بحسب الوعد الإلهي الذي قطعه الله لإبراهيم. وعلى هذا الوعد، راح محمد عزت نصرالله يدعو إلى قيام تحالف بين المسلمين (= سبط يهوذا) ويهود الأسباط الأخرى الساكنين في فلسطين، والغاية مواجهة الإسرائيليين المهاجرين من الخارج، تنفيذًا لإرادة النصارى في استيطان فلسطين، وطرد سبط يهوذا (المسلمين) منها!

هذيان إضافي
لم يظهر المسيح بالطبع في سنة 1998، ولم تعش هذه الهستيريا الدينية كثيراً، فماتت مع صاحبها الذي ابتُلي بالتخريف. وكان حبيب فارس قد نشر كتابًا بعنوان "صراخ البريء" عن حادثة مقتل الطفل هنري عبد النور (6 سنوات) في دمشق، والذي وُجد ميتاً في بئر، واتهم اليهود باستنزاف دمه. لكن التحقيقات برهنت كذب هذه التهمة، وأُطلق المتهمون، وقد ردّ نسيم ملّول عليه بكتاب عنوانه "أسرار اليهود" (1911). وعلى هذا الغرار، كان الحاخام
ناوفيطوس أصدر كتاب "إظهار السر المكتوم"، بعدما تحول عن اليهودية إلى المسيحية في سنة 1869. ثم أصدر كيبردلي زادة، أو عثمان بك، وهو يهودي ألماني اسمه الأصلي ميلينغبر، كتاب "غزو العالم بواسطة اليهود"(1875)، وميلينغر هذا أصبح محتالاً دولياً يسترزق من الكتابة عن اليهود، وكان يزعم أن جمعية الأليانس هي القوة الخفية لليهود. ومع ذلك، لم يتورّع وزير الدفاع السوري مدة طويلة، العماد مصطفى طلاس، ومؤلف مجموعة من الكتب عن الطعام والثوم والجمال والعسكرتاريا والتاريخ والحروب، عن تأليف كتاب بعنوان "فطير صهيون"، ملأه بالخرافات والحكايات السقيمة. وهذا الكتاب، علاوة على الكتب الأخرى المماثلة، لا تقدّم شيئاً إلا "تخليف" وعي العرب، وحشو أدمغتهم بالترهات، بينما يحتاج العرب، أكثر ما يحتاجون إليه، العلم والمعرفة والحقائق العلمية والفكر النقدي لمواجهة إسرائيل والاستيطان الصهيوني بُعدّة فاعلة، لا بخرافات مبتذلة، وهذيانات مُشِّلَة للوعي. والغريب أن معظم الذين كتبوا عن اليهود في القرن العشرين ركّزوا على تحقيرهم ودحض تعاليم ديانتهم وعقائدهم المهلهلة أصلاً، ولم يلتفتوا إلى المشروع الصهيوني في فلسطين.

* * *
في أي حال، لو كانت تهمة الدم صحيحة، فإن حوادث كثيرة من هذا العيار كانت وقعت في فلسطين، حيث عاشت جالية يهودية كبيرة، قياساً على الجوالي اليهودية في الدول العربية المحيطة بفلسطين. وكانت ستقع أكثر بعد قيام إسرائيل منذ 67 عاماً، بعدما صار لليهود قوة وسطوة على مليون وربع المليون عربي يعيشون، اليوم، تحت سلطتهم في فلسطين المحتلة عام 1948. غير أن الوقائع في فلسطين، قبل النكبة في سنة 1948 وبعدها، لم تسجل جريمة واحدة من طراز جريمة الدم، لكنها سجلت عشرات المجازر الدموية بحق الفلسطينيين، في سياق آخر. ولا ريب أن خرافاتنا عن الآخر كثيرة، عربياً كان أم يهودياً أم مسيحياً، وخرافاتنا "المعرفية" أكثر، وهي شائعة جداً في الكتابات التي لا يكف كثيرون ممن يفتقرون إلى المعرفة والثقافة عن إعادة تدويرها، وكل ما يفعلوه هو النقل من الكتب المنحطة. وتدّعي هذه تقديم المعارف عن اليهود واليهودية والصهيونية، وتنتشر في المحطات التلفزيونية الاسلامية بالدرجة الأولى، وفي المجلات المماثلة، بينما لا تقدّم هذه الكتابات، في الواقع، إلا السذاجة والسطحية والجهل، الأمر الذي يؤبد التفوق الإسرائيلي علينا، ويعوِّق إمكانات انبثاق التجديد لدينا. وفي خضم هذا العياء، كان لا بد من تصحيح المفاهيم والأوهام الشائعة. وأحسب أن حظنا من العلم ألا نترك مفهوماً شائعاً أو مستقراً إلا شككنا في شيوعه واستقراره. والقصد دائماً هو المعرفة. والبحث عن الحقائق متعتنا العقلية الوحيدة. والنقد العلمي وحده ما يقوِّم آراءنا، ويصحح أغلاطنا، وينير أفكارنا.