26 سبتمبر مفارقة الذكرى والحدث

26 سبتمبر مفارقة الذكرى والحدث

27 سبتمبر 2014

الإمام البدر الذي أطاحته ثورة 26 سبتمبر

+ الخط -

كتبت هذا المقال قبل عام، لكنه، للمفارقة، لم يجد طريقه إلى النشر. لذا، وجدته ما يزال قابلاً لإعادة نشره كما هو، من دون أي إضافة أو تعديل، على الرغم من كل ما حدث ويحدث، في مثل هذه اللحظة العصيبة والفارقة من تاريخ اليمن بسقوط عاصمته يوم 21 سبتمبر/أيلول الجاري، بيد مليشيا متمردة، ثار اليمنيون ضد "فكرتها" قبل 52 عاماً، لكنها حلت اليوم ككارثة من جديد في ذكراها الـ 52 بسقوط صنعاء، عاصمة الثورة وقلعتها.

ففي ذكراها الـ52، ستظل "ثورة 26 سبتمبر" 1962 من أعظم ثورات اليمنيين في تاريخهم الحديث والمعاصر، لصيرورتها التاريخية ثورة تحولات فكرية ممتدة عبر التاريخ، من لدن أبو الحسن الهمداني ونشوان الحميري وحتى أحمد محمد نعمان وأبو الأحرار محمد محمود الزبيري.

وقبل هذا كله، ما تخيلت أن يأتي يوم أنبري فيه للكتابة عن إحدى مسلمات اليمنيين الثقافية والسياسية، بهذا الشكل من الانزعاج والتذمر، لولا بوادر عودة الخرافة المدنسة بأبشع صورها وأشكالها المتخلفة. والأقسى أن ينجرف بعضهم في السير نحو هذا "التسطيح"، من دون اعتبار لشيء، سوى ما سيجنيه أو سيحصده، مصلحة شخصية مجردة من أي اعتبارات وطنية وإنسانية أخرى، ليس ذلك فحسب، بل أن يمضي بعضهم من دون وعي، للتقليل من هذا الحدث والتهوين منه، كلحظة ميلاد لليمنيين.

لم تكن ثورة 26 سبتمبر حدثاً سياسياً عابراً مقطوع الصلة عن نضالات اليمنيين عبر التاريخ، ولم تكن حدثاً عسكرياً انقلابياً، كما يحب خصومها أن يصوروها انتقاصاً وتزهيداً بنبل الهدف العظيم الذي قامت من أجله الثورة السبتمبرية، بل كانت خاتمة النضال اليمني في سبيل الحرية والكرامة لنضالات قرون. فلم تعانِ أمة من ويلات الظلم ما عاناه اليمنيون قروناً من حكم الأئمة، حكماً كهنوتياً عنصرياً شوفيناً استبدادياً بغيضاً، سخّر كل شيء، حتى دين السماء حوّله إلى مجرد وثيقة تمليك إلهية، يعضد بها ظلمه وقهره وامتهانه وخرافته.

51 عاماً مضت تفصلنا عن ذلك الحدث، إلا أني أكثر انشداداً، اليوم، نحوه من أي وقت مضى، ربما قد لا أجد إجابة مقنعة لبعضهم، ممن يرون أن ثورة سبتمبر لم تحقق الهدف المرجو منها، بحسب رؤيتهم هم تلك الأهداف، فيما أرى في تلك الثورة أنها حققت أهم أهدافها بإسقاط نظام الكهنوت الإمامي، وقضائها على واحدة من أحط نظريات الاستبداد السياسي في تاريخ الاجتماع البشري، من لدن الفرعون وحتى فجر 26 من سبتمبر/أيلول 1962.

قد يقول بعضهم، اليوم، إن ثورة "26 سبتمبر" لم تكن ثورةً حقيقية، لمس الناس نتائجها التي قامت من أجلها، وإلا لما احتجنا، بعد ذلك، بعد نصف قرن، ثورة 11 فبراير 2011، ولهؤلاء نقول، إن ثورة 11 فبراير لو لم تسبقها 26 سبتمبر لما قامت أساساً، أو لكان اليوم شباب 11 فبراير مجرد رعاة أو "عكفة" في جيش أحد أئمتهم.

تنبع عظمة ثورة 26 سبتمبر وعبقريتها من عمق التحول الذي أحدثته في الوعي والإدراك المعرفي الذي صنعته تلك الثورة، في بيئة تكاد أحجارها تتشيعُ، كما قال أبو الأحرار الزبيري، بيئة مسكونة بأمية أبجدية وأمراض وجهل وتخلف وخرافة وكهنوت وإمام.

مع ذلك، تفجرت الثورة في وجه كل ذلك العبث الخرافي والفوضى الهمجية، معلنةً يوماً جديداً في حياة اليمنيين، يوماً كأيام الناس الذين ناضلوا من أجل حرياتهم وكراماتهم وإنسانيتهم وأوطانهم السليبة، استعماراً أو استبداداً. لم تقل ثورة 26 سبتمبر شأناً عن ثورة 23 يوليو المصرية، إن لم تكن أعظم منها، فقد كانت فاتحة كتاب اليمنيين نحو النور والضوء، بعد قرون من الظلام والاستبداد، الذي خيم على أجزاء من أرض اليمنيين، عشرة قرون.

صحيح أن ثمة إخفاقات كبيرة أعقبت ثورة سبتمبر، يتقدمها حرف مسارها عن تحقيق أهدافها، سواء بالثورة المضادة المسلحة التي تفجرت في وجه ثوار سبتمبر (1962- 1970)، أو بأنظمة الحكم التي لم تستطع تلبية أهدافها خمسة عقود.

ولكن، لا يعني هذا الفشل الذي حصل خطأ تلك الثورة، بقدر ما يعني خطأ من تبوأوا مسار قيادة سلطة جمهورية الثورة نفسها، وخصوصاً في ما بعد فترة المصالحة الملكية الجمهورية 1970، والتي، تم بموجبها، التخلص من نظام الإمامة اسمياً، وبقي بكل تفاصيله وشخوصه وسلوكياته وثقافته فعلياً، مع اختلاف بسيط في لقب المايسترو من "سيد" إلى "شيخ" ومن "عكفي" إلى "فندم"، والأخيران من الرتب العسكرية القديمة.

هذا المشهد بالذات هو الذي يراد، اليوم، استنساخه مع ثورة 11 فبراير، مع فارق عكس تلك القاعدة من "شيخ" إلى "سيد" وهكذا، وهذا كله في ظل ديماغوجية سياسية قاتلة، أصابت كل نخب المشهد التي تتعامل مع تحولات المجتمع، وكأنها معالم لمواسم صيد السلمون، وليس في ذلك خطر وتهديد للمجتمع ومكتسباته النضالية وقيمه الوطنية والإنسانية الكبرى.

نبيل البكيري
نبيل البكيري
كاتب وباحث يمني مهتم بقضايا الفكر والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة.