أوباما المتردد في العراق وسورية.. السلف يسلم الخلف حرباً

أوباما المتردد في العراق وسورية.. السلف يسلم الخلف حرباً

24 سبتمبر 2014

أُرغِمَ أوباما، المتردد، على تحديد استراتيجية لمحاربة "داعش" (Getty)

+ الخط -
بدا الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خلال إعلانه الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وكأنه يُجَرّ جراً إلى حربٍ في العراق وسورية، لا يريدها، وربما لم يتوقع وقوعها. فقرار الحرب الذي أعلنه، عشية الذكرى الثالثة عشرة لهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، أظهر مدى التردد والارتباك الذي يعيشه، عندما يتعلق الأمر بأي تورط في توترٍ، قد يتحول إلى صراع مسلّح مفتوح يستلزم قوات أميركية على الأرض، على الرغم من تأكيده أنه لن تكون هناك قوات برية أميركية، وأن المعركة ستكون في إطار "الحرب على الإرهاب"، وليست حرباً بالمعنى التقليدي للكلمة.

خلفيات التردُّد والارتباك

في خلفية المشهد ما يسوغ ارتباك أوباما، وتردّده شخصياً. فالرجل صَعد إلى الرئاسة الأميركية في انتخابات عام 2008، بالدرجة الأولى، جراء معارضته الغزو الأميركي للعراق عام 2003، بناء على مزاعم ثبت زيفها لاحقاً، وما ترتب ذلك الغزو من استنزاف أميركي، معنوي ومادي وعسكري مهول. وتعهد أوباما بأنه سينهي ذلك التورط "بشكل مسؤول"، وبأنه سيضع حداً للمغامرات العسكرية الأميركية، وتحديداً في العالم الإسلامي، التي ميزت عهد سلفه، الرئيس جورج بوش. 

وفعلاً، كان أن حقق أوباما تعهّده ذاك بالانسحاب من العراق كلياً أواخر عام 2011، بعدما فشلت إدارته في إبقاء قوة صغيرة عسكرية صغيرة، للتدريب وتقديم المشورة، للقوات العراقية، جراء رفض البرلمان العراقي، حينئذ، منح تلك القوة حصانة قضائية أمام المحاكم العراقية. وفي الانتخابات الرئاسية عام 2012، وظف أوباما ذلك الانسحاب من "مستنقع" العراق، والذي كان قد أرهق الأميركيين وأغضبهم، ليفوز بولاية رئاسية ثانية، مكرراً تعهداته السابقة، بأنه لن يَجُرَّ الولايات المتحدة إلى حروب عسكرية جديدة مكلفة، ومجدداً تمسكه بالانسحاب من أفغانستان كلياً أواخر عام 2016، أي مع نهاية فترته الرئاسية الثانية والأخيرة.

الانزلاق مجدداً في "مستنقعات" المنطقة

لم تجر رياح الشرق الأوسط كما تشتهي سفن أوباما، فبدءاً من ثورات "الربيع العربي"، مروراً بإجهاض معظمها، ووصولاً إلى حالة الفوضى التي تعم المنطقة، ذلك كله سمح لتنظيمات تعدها واشنطن إرهابية بملء الفراغ. وجد أوباما قدمي إدارته تنزلقان نحو التورط في منطقةٍ، قاوم كثيراً الغرق في مستنقعاتها.

فكان، مثلاً، أن تدخل عبر سلاح الجو الأميركي والصواريخ في ثورة ليبيا، وَضَربِ قوات معمر القذافي، بدءاً من مارس/آذار 2011. وسبقت ذلك وترافقت واستمرت، عمليات القصف التي تشنها طائرات أميركية من دون طيار في باكستان واليمن والصومال، مستهدفة تنظيمي القاعدة وطالبان وتفريعاتهما، غير أن كل تلك العمليات لم تتضمن إرسال قوات برية أميركية، عقدة أوباما المركزية، بقدر ما أنها ركزت على توظيف التفوق الأميركي العسكري الجوي، بما يقلل الكلفتين، المادية والبشرية في صفوف الجنود الأميركيين. بل، إن أوباما حتى في عملية اغتيال زعيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، في باكستان، في مايو/أيار 2011، لجأ إلى عملية سريعة وخاطفة، قامت بها قوة خاصة، أنهت مهمتها في ساعات.

ودائماً، ما ركز أوباما، في حديثه عن الدور العسكري الأميركي، بأنه سيبقى محصوراً، في ظل إدارته، في هذين النوعين من السلاح: هجمات بطائرات من دون طيار، وعمليات خاصة، إن استدعت الحاجة، مضافاً إليهما تدريب وتسليح، فضلاً عن تقديم المشورة لقوات حليفةٍ لمجابهة ما تعتبره واشنطن تنظيمات إرهابية، ولكن، عبر تحالفات دولية وإقليمية، وهو ما يعرف باسم "مبدأ أوباما".

هكذا، بقي أوباما متردداً دوماً في اللجوء إلى القوة العسكرية الأميركية، مراعاةً، من ناحية، لسأم المواطن الأميركي من حروب مستمرة، ومكلفة جداً، تجاوزت عقداً. ومن ناحية ثانية، استناداً إلى قناعة راسخة، يحملها الرجل بأن المبالغة في الاعتماد على القوة العسكرية يعني استنزافاً لقوة أي دولة على المدى البعيد. وهو ما كان قد أشار إليه بوضوح في خطابيه في أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية في نيويورك عامي 2009 و2010. بل إنه، حتى عندما تجاوز نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، العام الماضي، "الخط الأحمر"، الذي وضعه له أوباما، بعدم استخدام سلاحه الكيماوي في سياق صراعه مع ثورة شعبه، وتوعد أوباما بقصف قوات الأسد، لم يلبث أن تراجع عن تهديده ذاك، بعد أن قام بخطوة غير متوقعة، إلقاء الكرة في ملعب الكونجرس، والذي رفضها مستاءً من إحراج أوباما له. وحينها، عجّت التحليلات المؤكدة أن هذا الرئيس يسعى إلى تجنب حرب جديدة في العالم الإسلامي بأي ثمن، على الرغم من أن خطة هجومه تلك التي هدد بها لم تكن تتضمن نشر قوات عسكرية أميركية على الأرض.

بعد مفاجأة "داعش" في العراق

فجّر "داعش" في يونيو/حزيران الماضي، مفاجأة غير متوقعة، بعد سيطرته على مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه، شملت مدناً وبلدات كبيرة، مثل الموصل، وزحفه تالياً نحو كردستان العراق. شكل هذا التقدم هزة عنيفة لـ"مبدأ أوباما". فوحدات الجيش العراقي، والتي تعد بعشرات الآلاف، المدربة والمسلحة أميركياً، فرّت هاربة من الموصل، وما جاورها، تاركة سلاحها الأميركي غنيمة لـ"داعش". ولم تلبث قوات البشمركة الكردية أن بدأت بالتقهقر، هي الأخرى، أمام تقدم "داعش"، لولا تدخل الطيران الحربي الأميركي.

حينها، ألقت الإدارة الأميركية المسؤولية على رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، محملة سياساته الطائفية والإقصائية، خصوصاً بحق السنة والأكراد، المسؤولية عن انهيار الأوضاع. وجراء ضغوط أميركية، رهنت أي تدخل عسكري أميركي للتصدي لتنظيم "داعش" باستقالة المالكي، وتشكيل حكومة وحدة وفاق وطني، اضطر المالكي إلى تقديم استقالته، الشهر الماضي، وحل محله حيدر العبادي، وهو سياسي شيعي آخر من حزب "الدعوة" الذي ينتمي إليه المالكي نفسه، لكنه جاء بوعود لتشكيل حكومة وفاق وطني. وهكذا، كان أن بدأت الطائرات الحربية الأميركية باستهداف "داعش".

وعلى الرغم من أن الضربات الجوية الأميركية استطاعت أن تحد من تقدم قوات "داعش"، وأفقدتها كثيراً من عنصر المبادرة، غير أنها لم تكن في وارد القضاء عليه، وهزيمته كلياً، وبدا أن أوباما مرتاح إلى هذه المقاربة، لتجنب تورط عسكري أميركي بري جديد في بلد حملته معارضته التورط العسكري فيه إلى كرسي الرئاسة. ولكن تعزيز "داعش" نفوذه على جانبي الحدود السورية العراقية، واقترابه من الحدود التركية والأردنية والسعودية، ثمّ إعدامه صحافيين أميركييْن، وضع أوباما تحت ضغوط غير مسبوقة أميركياً سياسياً ثمَّ شعبياً، فقد تحول الرأي العام الأميركي، هذه المرّة، لصالح فعل عسكري، رداً على قتل الصحافيين، وإن كان حصره (أي الرأي العام) في هجمات عبر الجو، من دون تورط عسكري بري.

استراتيجية حرب مبهمة

وهكذا، وجد أوباما، المتردد، نفسه، يُرغم على تحديد استراتيجية لمحاربة "داعش"، وهو الذي قال، قبل أسابيع، إن إدارته لا تملك استراتيجية لمحاربته، بل وصل به الأمر، قبل أشهر، إلى أن يستهزئ به وبقدراته، مقارناً إياه بفريق كرة سلة من الهواة. ولكن، في خطابه إلى الشعب الأميركي في 10 سبتمبر/أيلول الجاري، أهمل أوباما، ذلك كله، وأعلن استراتيجية للحرب من أربع نقاط:

أولاً: ضربات جوية منظمة ومتواصلة ضد "داعش" في العراق (بهدف إضعافها ثم تدميرها لاحقاً)، وسورية (بهدف إضعاف قدراتها)، لإفساح المجال أمام القوات العراقية والكردية، فضلاً عن قوات "المعارضة السورية المعتدلة" في سورية، للتقدم ضدها على الأرض.

ثانياً: زيادة المساعدات الأميركية العسكرية لتلك القوات التي تقاتل على الأرض، وإرسال 1600 عسكري أميركي ليقوموا بدور استشاري، استخباراتي، لوجستي، توجيهي، تدريبي، لا قتالي، في العراق.

ثالثاً: الاستمرار، بالتعاون مع الحلفاء، في سياسة "مكافحة الإرهاب"، وقطع تمويله وإضعاف قدرته على التجنيد والتحشيد الفكري.

رابعاً: الاستمرار، بالتعاون مع الحلفاء، أيضاً، في تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا "المنظمات الإرهابية". والملاحظ في خطاب أوباما، مسائل ثلاث:

أصر على أنه لن يرسل أبدا قوات أميركية برية إلى العراق وسورية. واعتبر هذه الحرب في سياق "الحرب على الإرهاب"، وليست حرباً بالمفهوم التقليدي للكلمة. ووسع نطاق ضرباته طائراته العسكرية المفترضة، لتشمل مواقع تنظيم "داعش" في سورية، وأعلن عن طلب 500 مليون دولار من الكونجرس، لتدريب مقاتلي "المعارضة المعتدلة" وتسليحهم. والنقطة الثالثة، هي الجديد في استراتيجية أوباما هذه، كما أنها تظهر مدى ارتباك مقاربة الرجل. فأوباما هو نفسه من عارض، نحو ثلاث سنوات، تسليح "المعارضة السورية المعتدلة"، على الرغم من توصية بذلك من وزيرة خارجيته السابقة، هيلاري كلينتون، ووزير دفاعه السابق، ليون بانيتا، ورئيس الاستخبارات الأميركية السابق، الجنرال ديفيد بتريوس. بل إن وزير خارجيته الحالي، جون كيري، يتبنى موقف من سبقه. ولكن، أوباما دائماً ما رفض توصيتهم تلك، ووصل به الأمر، قبل أسابيع، أن أعلن أن الحديث عن قدرة مقاتلي المعارضة السورية، والذين هم "مجموعة أطباء أسنان ومزارعون وصيادلة سابقون وما إلى ذلك"، على هزيمة نظام الأسد، لو توفر لهم التدريب والتسليح الفعال، أمر مبالغ فيه وطوباوي. لكنه، مرّة أخرى، عاد ليناقض مواقفه السابقة، من دون أن يكلف نفسه عناء تبرير ذلك، اللهم إلا بقوله إن المعطيات تغيرت بعد تقدم "داعش" على الأرض، على الرغم من أن التنظيم كان دائماً موجوداً، خصوصاً في سورية، لكنه كان يصر على التخفيف من شأنه.

عناصر من داعش  قرب من سنجار (وكالات)


إلى أين؟

مباشرة، بعد إعلان أوباما استراتيجيته، بدأت دبلوماسيته العمل على بناء تحالف دولي ضد "داعش"، وحسب المسؤولين الأميركيين، وبعد جولات مكوكية ومؤتمرات إقليمية ودولية في الشرق الأوسط وأوروبا، فإن هذا الحلف يتكون، الآن، من 40 دولة، منها عشر عربية (سنية) على الأقل.

المثير، هنا، أن غالبية تلك الدول لم تحدد دورها بعد في هذه الحرب، وكان من اللافت تردد الحليف الأميركي الأبرز، بريطانيا، في تقديم أي تعهد واضح في هذا الصدد. في حين اعتذرت تركيا، على الأقل إلى الآن، عن المشاركة في أي جهد عسكري. وفيما يتعلق بإيران، الموقف الأميركي متضارب ومتناقض حيال دورها. فبدايةً، أعلنت الولايات المتحدة أن إيران لن تكون شريكاً، ذلك أنها "دولة داعمة للإرهاب"، وتدعم نظام الأسد، وبالتالي، فإنها لم تدعى إلى مؤتمر باريس في 15 من الشهر الجاري، غير أن كيري عاد وقال، في اجتماع مجلس الأمن، لاحقاً، إن لإيران دور في الجهود الدولية لمحاربة "داعش"، من دون تحديد طبيعته.

وترفض بقية الدول الأخرى، كلها، على ما يبدو، إرسال أي قوات برية، كما يبدو، أيضاً، أن معظمها، إن لم يكن كلها، ترفض المشاركة بأي ضربات جوية لمواقع "داعش" في سورية. وهو ما أعلنته، بوضوح، فرنسا وأستراليا اللتان حصرتا مشاركتهما بالعراق، وهو ما يترك أميركا، وحيدة، إلى حد الساعة، في تحمل هذا العبء الذي لم يتحقق بعد، ولا توجد إشارة واضحة لبدئه قريباً.

وعلى الرغم من إقرار الكونجرس الـ 500 مليون دولار، طلبها أوباما لتدريب قوات من "المعارضة السورية المعتدلة" وتسليحها، إلا أن الحديث، هنا، يدور عن خمسة آلاف مقاتل فحسب، وليس قبل أن يخضعوا لفحص استخباراتي دقيق، لخلفياتهم الفكرية والسياسية والتنظيمية. وفي كل الأحوال، لن يتمكن هذا العدد القليل، عملياً من ملء الفراغ الذي سيتركه "داعش"، إن تم استهداف مواقعها فعلياً في سورية، مع ضرورة التنبيه، هنا، إلى أن إدارة أوباما لا زالت عند موقفها السابق، بأنها لا تقبل تسليح تلك المعارضة بأسلحة متقدمة، تحتاجها بشكل كبير، وتحديداً صواريخ أرض - جو، للتصدي لطيران النظام الحربي. والغريب، أن إدارة أوباما تريد من هؤلاء المقاتلين التركيز أكثر على محاربة "داعش"، لا النظام السوري الذي نكل بهم أكثر من ثلاث سنوات.

وتبقى مسألة متعلقة بتعهد أوباما القاطع بأن إدارته لن تقبل، أبداً، إرسال قوات برية أميركية إلى سورية والعراق. ففي حين أن هذا هو الموقف المعلن للإدارة، صرح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارتن ديمبسي، الثلاثاء الماضي، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، أنه سُيبقي هذا الخيار مفتوحاً، حسب تطورات الأوضاع على الأرض. وقد استدعى التصريح نقاشاً أميركياً حاداً حول ما إذا كان ثمة خلاف بين المؤسستين، السياسية والعسكرية، في هذا الصدد، وما إذا كانت إدارة أوباما تقدم حساباتها السياسية، وإرث أوباما الرئاسي، على التقديرات العسكرية، خصوصاً وأن أوباما أعلن أن هذه الحرب ستكون طويلة، ملمحاً إلى أنها قد تستمر سنوات، إلى ما بعد انتهاء فترته الرئاسية الثانية والأخيرة أواخر عام 2016.

وهكذا، يكون أوباما، قد انتهى من حيث أراد أم لا، كرئيس حرب، ولكن متردد، وهو الذي جاء إلى الرئاسة معلناً، بشكل قاطع، بأنه لن يكون رئيس حرب أبداً.