"الاتحاد الخليجي".. طموح يغري بعودة الفكرة وإنضاجها

"الاتحاد الخليجي".. طموح يغري بعودة الفكرة وإنضاجها

10 سبتمبر 2014

اجتماع وزاري لدول مجلس التعاون الخليجي في الكويت(27 نوفمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

تبرز قضية الدعوة إلى اتحاد خليجي، يتوّج مسيرة مجلس التعاون، واحدةً من القضايا المثيرة للجدل والحساسيات، على الرغم من أن الاتجاه الغالب لدى الأوساط الشعبية ولدى النخب، وصانعي القرارات يميل إلى تحبيذ الفكرة.
 
لم يسبق أن تمت الدعوة، مباشرة، إلى قيام اتحاد خليجي كمهمة "راهنة"، من قيادات في مجلس التعاون، أو من كبار المسؤولين الخليجيين، لكن الدعوة كانت تترد بين حين وآخر من متحدثين في منابر، أو بأقلام مُعلقين في هذه العاصمة أو تلك. 

وكانت الدعوة تساق من باب إطلاق الأماني، وصوغ الأهداف البعيدة، أو من قبيل التفاؤل بالمستقبل (تفاءلوا بالخير، تجدوه..). وبهذا، فقد أثارت دعوة الملك عبدالله بن عبد العزيز لقيام اتحاد خليجي قدراً كبيراً من المفاجأة، ليس لدى مراكز القرار وصانعيه في عواصم إقليمية ودولية فحسب، بل في العواصم والأوساط الخليجية كذلك، إلا أن الشعور بالمفاجأة اقترن لدى أوساط شعبية عريضة، هنا وهناك، بالارتياح، والحماسة للفكرة، وعلى قاعدة أنه ما دام ممكناً تحقيق الهدف البعيد في الظرف الراهن، فلماذا يجري تنفيذ ترحيل الفكرة إلى أجل غير مُسمى؟

واضحٌ أن الرياض التي أطلقت الفكرة على لسان العاهل السعودي، الملك عبدالله، في الدورة الثالثة والثلاثين للقمة الخليجية في الرياض (25 ديسمبر/كانون أول 2012) لم تتوقع رفضاً صريحاً للفكرة من إحدى دول المجلس (سلطنة عُمان)، وكان الاعتقاد السعودي يذهب، ربما، إلى أن طرفاً ماً، أو حتى أكثر من طرف، قد يدعو إلى التريث، أو يضع متطلباتٍ واقعيةً لضمان نجاح تنفيذ الفكرة، وعلى أمد غير قصير، أما الرفض المبدئي فبدا غير متوقع، وصادماً بعض الشيء. والمسألة، بطبيعة الحال، تتعدّى صدمة المشاعر إلى بداية التشكك في الرؤى، والسؤال عن ماهية المقاصد السياسية. فقد أخذت الرياض على مسقط علاقاتها الوثيقة مع طهران على أكثر من مستوى، إلى درجة استضافة مفاوضات أميركية إيرانية بشأن ملف طهران النووي في مارس/آذار 2013، من دون إحاطة بقية الدول الأعضاء بالأمر.


 

وقد أعربت مسقط، من جهتها، في غير مناسبة عن تمسكها بمسيرة مجلس التعاون، والتزامها بقرارات اجتماعات القمة والاجتماعات الوزارية، وما انبثق منها من قرارات وتوصيات. أما رفض فكرة الاتحاد فاستند، لدى السلطنة، إلى أن الإتحاد في حال قيامه يذوّب الكيانات القائمة، ويسلب الدول الأعضاء أي استقلال في قراراتها السيادية.

وأكثر من ذلك، فقد ذهبت شخصيات عُمانية إلى أن هدف فكرة الاتحاد خارجي أو ناجمة عن ظروف خارجية (سيف بن هاشل المسكري، نائب الأمين العام السابق للشؤون السياسية في مجلس التعاون).

فيما شكك وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، بواقعية الفكرة، ونسبها إلى فكر قومي عروبي (رومانسي كما يُفهم من التصريح) كان سائداً في الماضي، ولخص موقف بلاده، في تصريحات عديدة، بالقول إن سلطنة عمان لن تكون جزءاً من الاتحاد الخليجي، ولن تقف ضده. وفي تصريح له لصحيفة الحياة اللندنية، سأل: لماذا لا يقوم اتحاد بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين؟ ولعل الهدف من إثارة هذا التساؤل القول إن قيام اتحاد بين دولتين خليجيتين تكتنفه صعوبات جمة، فكيف مع مشروعٍ لاتحاد يجمع ست دول؟

واقع الأمر أن ضعف العمل المؤسسي في مجلس التعاون هو الذي حال، حتى الآن، دون إنضاج فكرة الاتحاد "على نار هادئة". ولو كان هناك اعتداد بالعمل المؤسسي، لأحيلت الفكرة في نطاق من السرية إلى المجلس القيادي الأعلى، ثم إلى مؤسسة للتخطيط أو للسياسات العليا، وأخرى للتشريع. الفكرة وجيهة بالطبع، وتستند إلى ميثاق إنشاء مجلس التعاون (الفقرة الرابعة) بالسعي نحو تحقيق الوحدة، ومن شأن تحقيقها تقوية مركز مجلس التعاون لدى المنظمات الإقليمية، كما ذهب إلى ذلك رئيس الدبلوماسية السعودية، سعود الفيصل، وتستند إلى تأييد غالبية الدول الأعضاء الفكرة.

العاهل السعودي أطلق فكرة الاتحاد الخليجي

على أن السجال السياسي والإعلامي حول الفكرة لن يضع حلاً للخلافات، وقد يؤدي إلى تأجيجها. فالثابت أن إنشاء مجلس التعاون أريد به الوصول إلى غايات وحدوية أو اتحادية، والجدل لا بد أن يدور حول الأسس والمرتكزات الواجب قيامها، لضمان نجاح الفكرة، أو حول التوقيت المناسب، وليس حول المبدأ. وأياً كانت الملاحظات على مسيرة التعاون، فقد أثبت المجلس أنه أكثر الهيئات والمنظمات العربية نجاحاً، وأن نشوءه لم يتم لغايات مؤقتة، جرى استنفادها (الحرب العراقية الإيرانية الطويلة).

الاتحاد الأوروبي نموذجاً

مسيرة الاتحاد الأوروبي واحدة من أفضل النماذج الدولية التي يمكن الاستهداء بها، في تحديد خطوات المستقبل للمسيرة الخليجية. لقد استغرق بناء الاتحاد نحو خمسين عاماً، وكان السعي نحوه قائماً فيما دول أوروبية تنضوي في معسكرين عالميين متقابلين، معسكر الناتو وحلف وارسو.

وقد اقترنت المسيرة الأوروبية الطويلة والناجحة بالعمل على تطوير الأنظمة السياسية نحو اعتماد حياة ديمقراطيةٍ، يتم فيها الفصل التام بين السلطات مع احترام خاص لسلطة القضاء وسلطة التشريع (البرلمان) ونبذ العنف السياسي، والوفاء بحقوق الأقليات والمساواة بين الدول الأعضاء، بما يتعلق باعتماد القرارات.

قام الاتحاد الأوروبي، ولم ينل ذلك من سيادة بريطانيا أو فرنسا أو لوكسمبورغ. وما زال الجنيه الاسترليني عملة صعبة في العالم، ومعتمدة في موطنه المملكة المتحدة، إلى جانب اليورو (العملة الموحدة). ولم يحِلّ البرلمان الأوروبي محل البرلمانات الوطنية. ومغزى ذلك أنه بقي هامشٌ ليس ضيقا لاتخاذ القرارات بصورة مستقلة، ووفقا للمصالح الوطنية. ها هي دول، مثل فرنسا وبريطانيا، تبدي الاستعداد للمشاركة في حملةٍ عسكريةٍ في مناطق في الشرق الأوسط ضد تنظيم داعش، بينما غالبية الدول الأعضاء لم تبد مثل هذا الاستعداد.

أمن الخليج والعلاقات مع إيران

الخلاف حول فكرة الاتحاد ينبغي أن لا تكدّر الأجواء، ذلك أن هذه الفكرة تعكس طموحاً واقعياً، أو حلماً واقعياً قابلاً للتحقيق، لكنها ليست في منزلة مشروع برسم التحقيق شبه الفوري.

وبدلاً من الخلاف حول قضايا آجلة، من الأوفق والأصح الاتفاق على قضايا عاجلة، في مقدمّها المسائل الاستراتيجية، مثل حماية أمن الخليج، ومنع أي اختراق خارجي للمنطقة.

ولعل هذا هو الهاجس العميق الذي حدا بأصحاب الفكرة لإطلاق فكرتهم. لقد نشأ المجلس لمواجهة أي ارتدادات أو تفاعلات أو امتدادات للحرب العراقية الإيرانية. انتهت الحرب عام 1989، ولم يستنفذ المجلس أغراضه في إرساء تعاون شامل بين دوله الأعضاء، تنعم الشعوب بثمراته، غير أن التحديات لم تتوقف في الإقليم. 

وليس سراً أن مطامح الجارة إيران ما زالت تشكل مصدر قلق كبير، ابتداء من الملف النووي، إلى استمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، إلى محاولات العبث بالنسيج الاجتماعي، إلى تقوية ذراع مسلح لها في اليمن (جماعة الحوثيين).

وإذ تحتفظ دول المجلس الست بعلاقتها مع طهران، ويجري تبادل الزيارات بين مسؤولي عدد من الدول ومسؤولين إيرانيين، فذلك لا يحد من القلق إزاء المطامح الإيرانية، وحتى حيال تعامل طهران مع مجلس التعاون، إذ تحبذ التعامل مع الدول فرادى، وسبق لبعض مسؤوليها أن أخذ على الدول الست إنشاء مجلس التعاون مع الدعوة إلى حل المجلس، واستبداله بإطار آخر: ستة زائد اثنين (الدول الخليجية الست إضافة إلى إيران والعراق الدائر في الفلك الإيراني).

 بن علوي: الفكرة تنتسب إلى فكر
عروبي من الماضي

في حماية دول الخليج أمنها ومستقبلها، لا مفر من تعزيز قدراتها الذاتية، واستثمار علاقاتها الدولية في هذا الاتجاه. وذلك أمام دولة جارة لا تعبأ كثيراً بالحدود وبسيادة الدول، وتبدي أقل اعتبار للدول "الصغيرة"، وعلى الطريقة الروسية ذات النزعة الامبراطورية، وتعتنق أفكاراً راديكالية، قوامها أن الجمهورية الإسلامية هزمت أميركا (ليس معلوماً أين وقعت الهزيمة المقصودة)، وأن التعاون الإسلامي، بقيادة الجمهورية الإسلامية، هو البديل لكل شيء! كما يجري في سورية ولبنان والعراق واليمن (وغداً ربما في السودان، بعد إغلاق المركز الثقافي الإيراني فيها)، وتكفي نظرة إلى حال هذه الدول، للتعرّف على فحوى "التعاون الإسلامي" ومآلاته.

من الأهمية بمكان أن توظف الدول الخليجية ذات العلاقة الوثيقة مع طهران، كالكويت وسلطنة عُمان، هذه العلاقة، لصون أمن الخليج، وأن تأخذ طهران علماً بأن أمن الخليج (وكجزء من الأمن الجماعي العربي) يقف على رأس أولويات هذه الدول، وجنباً إلى جنب مع أهمية العلاقات الثنائية مع طهران.

وبموازاة ذلك، فإن الابتعاد عن أي مظهر من مظاهر التطبيع مع دولة الاحتلال العبرية، يحفظ على المدى البعيد أمن الخليج، مع أهمية الفصل التام بين هذه المسألة والعلاقات مع واشنطن التي تُملي اعتبارات استراتيجية شتى الحفاظ على متانتها وثباتها.

في القناعة أن التفاهم حول هذه المسائل، وما يتفرع عنها، مثل درع الجزيرة، أو اعتماد التجنيد الإلزامي، أو تنويع مصادر التسلح الدفاعي وتكامله، أو التعاون مع دول شقيقة في مجالات دفاعية، هي من القضايا العاجلة التي يتعيّن ألا يحجب أي خلاف حول فكرة الاتحاد، أهمية الوفاء بها.

فيما تمثل مسألة تطوير مؤسسات المجلس، وزيادة الاعتماد على الذات، وتجديد الأنظمة السياسية من داخلها، وتمتيع الرعايا العرب، وغير العرب المقيمين، بثمرات مسيرة التعاون (وخصوصاً تسهيل التنقل) أفضل خدمة للطموح الاتحادي على المدى البعيد.

مضى نحو عشرين شهراً على إطلاق الفكرة، من دون أن تنال ما تستحقه من بحث وتمحيص في مؤسسات مختصة، وبغير إحاطة الرأي العام بمآلاتها، غير أن طرحها على النحو الذي طرحت فيه، ومن طرف أكبر دولة خليجية، قد حرّك المشاعر والأفكار والهواجس، ووضع هذا الهدف قبالة الأنظار، والفيصل، في نهاية المطاف، هو في تهيئة ظروف موضوعية وبنى تحتية تأخذ الفكرة إلى الأمام، كأن تنجح فكرة العملة الخليجية الموحدة مع الإبقاء، جنباً إلى جنب، على العملات الوطنية آماداً معلومة. أما رفض فكرة الاتحاد من أساسها فهو من حق الرافضين، ولا شك أنه حق سيادي، وما زال هناك داخل الاتحاد الأوروبي من يرفض قيامه حتى بعد أن قام!