الخوف من أن نشبههم

الخوف من أن نشبههم

23 اغسطس 2014

تجسيد كاريكاتيري في طوكيو لزعماء ملتقى "G8" (أ.ف.ب)

+ الخط -

ربما يكون من أعظم انتصارات الرأسمالية اقتناع خصومها أنها النظام الأفضل، وأن النجاح الوحيد الممكن هو الذي تصنعه قوانينها المقدسة، اقتصاد السوق، حرية التنافس، التجارة الحرة والعولمة.

حتى ساد الفكر الوحيد الذي لا يقبل فكراً غيره، ولا يختلف عن شيء عن دعاوى التعصب والتكفير، والذي يطلق على كل ذي رأي مخالف، نيران مدفعيته الإعلامية، إذا كنت من دعاة تقاسم الثروة، ومحاربة الثراء الفاحش، والربح المتوحش، ومن أنصار محاربة هيمنة المال، وطغيان الاستهلاك، فأنت شعبوي، تقول ما يعجب الشعب، لكنك تعرف أنه مستحيل التطبيق، وأنت اشتراكي متخلف، تحن إلى عهد القطاع العام، والدولة المرضعة، والحزب الوحيد، وإذا كنت ضد استعباد الناس بالمضاربة والقروض، وتبخيس قيمة العمل، وضد نقل المصانع الملوثة إلى بلدان الجنوب، وضد دفن النفايات النووية فيها، وضد الهجرة المنتقاة، وضد معتقلات العبيد الجدد في مصانع تحت الأرض تلهث وراء أرخص سلعة بأرخص إنسان، فأنت شعبوي ويساري متخلف، تحن إلى عهد "ديكتاتورية البروليتاريا".

لم يعد مسموحاً لأحد أن يكون اشتراكياً على مزاجه، بهويته واختياراته الحرة، إلا أن يكون "بليرياً" ينجح أفضل من الليبراليين في تتويج الليبرالية بلا منازع، وفي جعلها بصيغة إنسانية أقل شراسة من ليبرالية المتوحشين، وعليك، دائماً، أن تخجل من نفسك، إذا  تمنيت لشعبك مستشفيات ومدارس عمومية، لا تخضع للتنافس والربح والانتقائية، وعليك أن تخجل من نفسك، إذا طلبت حماية المنتوج الوطني، وتمنيت حماية العمال، قبل الارتماء على أحذية المستثمرين، وعليك أن تخجل من نفسك، بل وأن تدفن نفسك حياً، إذا تجرأت واعتقدت أن الإمبريالية ما تزال تسرق وتزهق الأرواح، هل قلت الإمبريالية؟ وهل ما زلت تظن أن هذه الأكذوبة التي روجتها الشيوعية خدمة للحرب الباردة ما تزال على قيد الحياة؟ هل تعرف تدخلا واحداً للولايات المتحدة الأميركية، في عالم اليوم، يتم استعباداً للشعوب، واستغلالاً لثرواتها.

الحرب في العراق كانت من أجل تحرير الكويت، ثم من أجل القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ثم من أجل القضاء على صدام ونظامه، ثم من أجل القضاء على داعش. والحرب في أفغانستان كانت من أجل القضاء على الإرهاب.

وفي ليبيا لتحرير ثوار بنغازي. وفي مالي للقضاء على عصابات القاعدة.

لأول مرة في تاريخ الإنسانية، تسخر أميركا كل طاقاتها لإسعاد شعوب العالم، حتى إنها انتخبت رئيساً يشبهنا، لكي لا نشك فيه ولا في نواياه، فقط يجب أن نحذر من العودة إلى الوراء، ومن إيقاظ الوحوش القديمة، ويجب أن نحذر خصوصاً من الشعبوية التي يمكن اعتبارها "عاراً ثقافياً"، عندما لا تكون شتيمة في وجه الذكاء الإنساني، وحتى إذا قدر الله، وابتلي أحدكم بشيء من هذه  الآفة، فلتكن من الصنف "اللايت"، الذي لا يغادر المكاتب والدكاكين السياسية، وليس شعبوية تشافيز، أعوذ بالله، شعبوية تصل إلى الحكم، وتؤمم النفط، وتوزع الأرض على الفلاحين، وتوزع المداخيل على الفقراء، وتعتنق ديناً غريباً يؤمن بمجانية التعليم والدواء، هذا هو الطاعون بنفسه.
 
وحتى لو أعجبك هذا الصنف، فتستر على إعجابك، لا تجهر به كتابة أو خطابة، فستشبه عند ذلك مثقفاً يحمل حقيبة الديكتاتور، وإذا وصل إلى علمك أن الولايات المتحدة الأميركية تحارب هذه الشعبوية التي ينزل الناس إلى الشوارع، من أجل نصرتها، فلا تعتبر أنها تخوض هذه الحرب دفاعاً عن محميتها كما كانت تفعل قديماً، هل سمعت بمقتل جديد لأليندي، أو بتنصيب دموي لبينوشي حديث؟ أميركا تخوض باسم الذكاء الإنساني حرباً ضد هذه الشعبوية، فتؤسس وكالات لمساعدة الديموقراطيين، على مواجهة "الحمر الجدد"، تمول "المجتمع المدني" المنذور دائماً لقيم العالم الحر، وتؤجج الاحتجاجات المطبوخة في "الصحافة الحرة"، وتوحي للجيش الذي يكره الفوضى، بما يجب أن يفعله، فيفعله بإتقان من يعرف ما في أسلحته من "آراء" مفحمة، ثم يعود راضياً وهادئاً إلى ثكناته، بعد أن ينصب على رأس الدولة لمرحلة انتقالية إلى رحمة الله، يمينياً قحاً من البرلمان، يحب أميركا ويكره الشعبوية.

من خصائص عالم اليوم أن أشياء كثيرة يشبه بعضها بعضاً، إلى حد يضيع معه جوهر الشيء ونقيضه، الخوف أن نشبه أعداءنا إلى حد يجعل الضحية أقسى على نفسها من الجلاد.

F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.