معجزة الآخرين

معجزة الآخرين

09 اغسطس 2014

قادة أفارقة في القمة الأفريقية الأميركية في واشنطن (6أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


في تصرف القوى العظمى، يوجد دائماً شيء ينمّ عن احتقار عميق للمستضعفين، حتى عندما يتعلق الأمر بمبادرةٍ تلبس قناع الرحمة وحب الخير، ربما يوجد في جينات الأقوياء شيء يجعلهم يستخفّون بكل من عداهم، لأن قوتهم بنيت أساساً على إلغاء الآخر، سواء بإبادة الشعوب الأصلية، أو بالاستعمار، أو بالاقتلاع، أو بالعبودية، أو بالحروب، أو بامتهان الأزمنة الحديثة. هذا ما يوحي به بشكل يدعو إلى الاستغراب اجتماع واشنطن بالرؤساء الأفارقة، في محاولة لرسم خطة استراتيجية للتعاون الأميركي الأفريقي، كما تدّعي الولايات المتحدة، والحال أن الغرض الذي لا تكاد تستره هذه اللغة المنافقة هو، ببساطة، محاولة انتشال أفريقيا من مخالب الصين واستعادتها إلى القبضة الأميركية، أو، على الأصح، استعادة نفطها وذهبها ومعادنها وثرواتها الطبيعية، وتصحيح الاختلال التجاري الذي يجعل حجم المبادلات التجارية الأفريقية الصينية تصل إلى 210 مليارات دولار، بينما لا يصل حجمها مع أميركا وأوروبا سوى إلى 85 مليار دولار.

عندما يقول أوباما إن أفريقيا هي "قصة النجاح المقبلة"، فهو لا يعني، طبعاً، أن تنجح لنفسها أو لأبنائها، بل أن ينجح فيها الاقتصاد الأميركي، وثروات شركاته وبنوكه ومستثمريه، ضد الاقتصاد الصيني الذي تحرص أميركا على لجمه، قبل أن يلتهم الأخضر واليابس. لكن هذا الغرض المعلن الذي كان يقتضي، على الأقل، من ناحية اللياقة أن يتفضل الرئيس الأميركي بالتنقل إلى قارته الأم، لم يمنع الإدارة الأميركية بسبب استعلائها المزمن من "شحن" كل الأفارقة من أهل الحل والعقد، في رحلات طويلة مضنية ومكلفة، للمجيء، طوعاً أو كرهاً، والمشاركة في اجتماع بين فكي الأسد، ولا يزعج أميركا أن تتصرف بهذه العنجهية، حتى وهي لا تحتل سوى المرتبة الثالثة في المعاملات الاقتصادية مع أفريقيا، بعد الصين والاتحاد الأوروبي، ولا تحتل سوى مكانة محدودة في المشاريع الكبرى المهيكلة التي تنجز على الأرض الأفريقية، بشراكة مع الأطراف الأخرى. من المؤكد أن أميركا تريد أن تتصرف بنوع من الثقة بالنفس، لأنها، في نهاية الأمر، لا تخاف أحداً، وتؤمن برأي خبرائها الذين يؤكدون أن المصالح تتكاثر وتزدهر، كلما تعددت الأطراف المتصارعة عليها، وأن تحسين الموقع الأميركي في أفريقيا يقتضي تعدد المتنافسين على هذه الأرض البكر، الشيء الذي سيسمح بتدخل أميركي على أرضية منتجة للحظوظ والفرص والاقتتال، وهو أمر تعشقه أميركا وتتقنه ذهنيتها الشرسة. لذلك، فإن اجتماع واشنطن ليس عرضاً للعضلات فحسب، وأفريقيا لا تذهب إليه "كفريسة مذعنة"، بل قوة مستقبلية، لها ما تفاوض عليه ومن أجله. ومع ذلك، لا يمكن للمرء، وهو يرى مواكب الوفود الأفريقية، أن لا يتذكر أن هؤلاء الرؤساء قادمون من قارة كل الثروات وكل المآسي، موارد ضخمة وحروب ومجاعات وتطرف وعنف وحكامة فاسدة، وأخيراً إيبولا، الفيروس الخارج عن السيطرة، والذي يتابع اجتياحه حاصداً أرواح مئات الأفارقة، في وقت تحدثت فيه إشاعة ملحاحة عن توفر مختبراتٍ كبرى على تلقيح مضاد أو علاج جديد، تنتظر فرصة تسويقه على أحسن وجه. كان ذلك قبل أن يظهر في الأخبار طبيب أميركي تجرأ عليه الفيروس الوقح، وقد تماثل للشفاء، بعد تجريب العلاج الجديد عليه، من دون الناس جميعاً.

بعد تصفية الاستعمار في أفريقيا، غرقت القارة في بحر الانقلابات والديكتاتوريات الدموية، والفساد والرشوة وتعثر البناء السياسي الحديث، وتبين بعد فترة قصيرة أن هذا "النزول إلى الجحيم"، لم يكن غريباً عن القوة الاستعمارية التي خرجت من الباب، ورجعت من النافذة، استعماراً جديداً ينظم التخريب متزامناً مع نهب الأرض، ما تحتها وما فوقها، وقيل، آنذاك، تصادياً مع البلاغة الاستعمارية السائدة، إن "إفريقيا انطلقت سيئاً".

ثم جرت مياه كثيرة تحت الجسر، تغير العالم في العلاقات الدولية، كما في المنافسة الاقتصادية، وتدخلت العولمة لترسم خريطة جديدة لإنتاج المصالح والنفوذ، لا تناسب بالضرورة خريطة الحدود الترابية التي تقاتل الناس حولها قروناً، وأنتجوا بسببها قبل مئة عام حربهم العالمية الأولى. وهاهم يقولون "إن أفريقيا آتية"، وإن من يرى كل هذا الهوس العالمي بأفريقيا، يراوده حلم معجزة خارقة تنقذ الإنسانية جمعاء من إثمها الأصلي، عندما أذاقت القارة التي أنجبت الإنسان كل الآلام التي عرفها المعذبون في الأرض.

F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.