نزوح سوري

30 يوليو 2014

سوريون يتظاهرون في باريس في الذكرى الثالثة لثورتهم (مارس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ليس سوى حرف واحد مُختلف بين كلمة نزوح ونزوف، لكن وقعهما في روح السوري واحد. في باريس التي اعتقدت أنني أتيت لأرمم تصدعات روحي المُتعبة من الجرح السوري النازف منذ سنوات، ولأزور إخوتي، فوجئتُ بأنّ القاسم المشترك الأعظم في حديث الشبان (ت) السوريين هو تفاصيل النزوح واللجوء وقوانينهما. شباب سوريون التقيتهم في بيوت أقارب وأصدقاء، شباب، بعمر الزهور والعطاء وبناء المستقبل وبناء الأوطان، كل منهم يحكي قصته، كيف اضطر إلى ترك سورية. منهم من دُمر منزله وخسر عمله، ومن هزمه اليأس والقلق من انعدام المستقبل وإيجاد فرصة عمل في وطن تحول إلى ساحة وغى، ومن اختار عمداً الرسوب في امتحان التخرج الأخير من الجامعة، لكي لا يلتحق بخدمة العلم، ويتحول، بعد أيام أو أسابيع، إلى ورقة نعي كُتب تحتها: الشهيد البطل. ومنهم من هرب من جرحه، بعد أن فقد أخاً أو أباً، أو أسرته كاملة في جنون القتل والدمار في سورية.

كنتُ أتأمل هؤلاء الشبان السوريين في باريس، وأنا في حالة ذهول، كأنني لا أصدق ما أسمع، كأنني في كابوسٍ، أنتظر، بفارغ الصبر، أن أصحو منه وأقول: الحمد لله ما سمعته وعاينته كان مُجرد كابوس، لكن كلام هؤلاء الشبان كان يزيد من ذهولي وترسيخي في واقع بالغ الألم، أصبحوا جميعاً يحكون عن قانون دبلن وقانون جنيف وعن البصمة وأهميتها، وكل ينصح الآخر ألا يلجأ إلى مخالفة القوانين. جمعتهم ثقافة من نوع خاص، ثقافة النزوح والروح النازفة، وبدل التحدث عن كتاب جميل، أو الاختلاف حول معاني قصيدة، أو التحدث بزهو وحماسة عن مشروعهم في الحياة، وما يريد كل منهم أن يقدم لوطنه، ويساهم به في بناء سورية الحديثة، سورية الحرية والكرامة، فإنهم يجدون أنفسهم ملفوظين خارج وطنهم مذلين ومهانين. يحكون عن قانون دبلن، ويختلفون بشأن أي بلد أجنبي هو الأفضل للنزوح، ويروي كل منهم تجربته، لكي يستفيد منها الآخرون، ولا يقعوا في الأخطاء التي وقع فيها. عديدون منهم تعرضوا للنصب من مُهربين باعوهم تأشيرات مُزورة، وبعضهم سُجن في البلد الذي حلم بعيش آمن فيه، فما أن وطئت قدماه البلد الذي نزح إليه، حتى وجد نفسه في السجن بتهمة التزوير.
أحد هؤلاء الشبان سُجن أربعة أشهر في دولة أوروبية، بعد أن دفع عشرة آلاف دولار، لنصّاب وعده بأنه سيؤمن له اللجوء والأمان، وبعضهم من ألقى بنفسه في قوارب الموت آملاً بالوصول سالماً إلى شاطئٍ ما يُشبه الوطن، أو يكون بديلاً عنه. وأحدهم بكى من ألم الذل، وهو يصف الوضع البائس والإحساس بالمهانة في فترة التحقيق والإقامة في غرف بائسة، وتلقي مساعدات طعام، هي معلبات تُلقى لهم، كل مدة، لكي تسد جوع المعدة، وتسند الجيوب الخاوية والأحلام الذابلة. كل هؤلاء الشبان السوريين، بطاقاتهم الجبارة المُعطلة، كما تُوضع العصي بين الدواليب، يعيشون في بلد اللجوء أو النزوح على الهامش، كأشباح، يعيشون لمجرد البقاء على قيد الحياة، بعد أن أصبح البقاء على قيد الحياة ترفاً، في وطن يعوم على دماء أبنائه.

عشرات آلاف الشبان السوريين الذين أجبروا على النزوح، كان من المفترض أن يكونوا في قلب سورية الجريحة، يبنون وطنهم، ويصبون علمهم وطاقاتهم وحماستهم وحبهم للوطن في البناء، ليس بناء الحجر فقط، بل بناء المجد والكرامة وعزة النفس، في بلاد الغربة التي تعاني أساساً من البطالة والأزمات الاقتصادية لن يحققوا ذواتهم، ولن يجدوا العمل الذي يحفظ كرامتهم، ويتناسب مع إمكاناتهم. أحد هؤلاء الشبان يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية، ويعمل نادلاً في مقهى. من أجبر مئات آلاف الشباب السوريين على النزوح، وعلى تجرع المُر هو واقع أشد مرارة، واقع أشبه بالهستيريا، حيث لم يعد من يقين سوى الخراب والموت المجاني اليومي، ولم يعد لعقارب الساعة من وظيفة سوى تعداد عدد القتلى. حالة الشبان السوريين في بلاد المنفى مُخزية وموجعة أكثر من كابوس.

من سيعيد هؤلاء الشبان إلى سورية؟ هل يشعر من تسبب في تهجيرهم بوخز ضمير ومسؤولية، أم أن الضمير ضمر كما كل المعاني الإنسانية والوجدانية، ولم يبق سوى هستيريا القتل والدمار؟ أي مستقبل لوطن نزح، أو نزف، أبناؤه حتى الموت؟ 

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية