العربي لاجئاً في وطنه

العربي لاجئاً في وطنه

22 يونيو 2014

طفل لاجئ سوري في خيمة بالبقاع (نوفمبر/ 2014/Getty)

+ الخط -
يحيي العالم سنوياً، كل يوم 20 يونيو/حزيران، اليوم العالمي للاجئين. وتغفل عنه المجتمعات العربية، إلا جمعيات ومنظمات غير حكومية قليلة. إحياء هذا اليوم فيه استحضار، ولو رمزي، لمعاناة ملايين اللاجئين المشردين في ظروفٍ تُفتقد فيها أدنى الكرامة البشرية. ربما كنّا من أكثر الأمم التي اكتوت بنيران اللجوء، فلقد شكل "الشرق الأوسط" المجال الجغرافي الوحيد منطقة طاردة وجالبة للاجئين في الوقت نفسه. عرفت هذه المنطقة، منذ ثلاثينات القرن الماضي، أمواجاً من اللاجئين، قدموا إليها من مناطق مختلفة، هروباً من الاضطهاد، فشكلوا جالياتٍ ذات أصول مختلفة، اندمجت تدريجياً في النسيج الاجتماعي لمجتمعات الاستقبال، ولكن ظلت الجالية الفلسطينية استثناءً بكل المقاييس.
وفي التاريخ الحديث، شكل الفلسطينيون أول العرب المكتوين بمحنة اللجوء المضاعفة. ومع تتالي العقود، انضمت إليهم جنسيات عربية أخرى، فقاسمتهم عذاب هذه الغربة القسرية. وتكمن خصوصية اللجوء الفلسطيني في التشريد المستديم، ما جعلهم شتاتاً. وكان الاستيطان الإسرائيلي، وقدوم بعضٍ من شتات اليهود الحالمين بأرض الميعاد والوطن الموحد البديل، سبباً في هذا التهجير. على غير هذا المنوال الفريد، عاد اللاجئون الجزائريون إلى وطنهم، حالما استقل، وكذا عاد غيرهم من شعوب العالم، ولكن، ظل الفلسطينيون استثناءً في تاريخ اللجوء الحديث.
ومع بداية الألفية الثالثة، شهدت المنطقة العربية أشكالاً جديدة من اللجوء، لم تعهدها من قبل، فأضيف إلى اللاجئين الفلسطينيين لاجئون آخرون: عراقيون وسوريون ويمنيون. الحروب الاستعمارية والثورات أججت أخيراً تدفق اللاجئين. وفي هذه المناخات الطاردة، اضطر من التجأ من الفلسطينيين إلى تلك الدول أن يهاجر، ثانيةً، إلى محطات أخرى، أبعد وأقسى. تلك البلدان التي آوتهم، طوعاً أو قسراً، أجبرتهم إلى الترحل ثانية. في سياق الحرب الأهلية الطاحنة التي تشهدها سورية حاليّاً، والتي شهدها من قبل العراق، وربما ستشهدها ليبيا في الأيام المقبلة، اضطر الفلسطينيون، في أثناء ذلك كله، إلى تدبر مسالك لجوءٍ بعيدة عن حدود الوطن الأم، أو حتى الوطن العربي بأكمله. أستراليا وكندا ودول أخرى عدة غدت محطات للاجئين، ولكن، تظل النسب الأكبر منهم في دول جوار عربية.
نخشى أن تتحول في السنوات المقبلة البلدان العربية إلى أكبر منتج للاجئين. الحرب الأهلية والاستبداد ومعارك السلطة هي السبب الأكبر لهذا الشكل الجديد من اللجوء، أو الموجة الثانية منه، لا علاقة لها مباشرة بالاستعمار التقليدي.

قد تستعمل دول الجوار العربي، من تركيا إلى إيران .. إلخ، بلا شك، اللجوء ورقة للضغط على الأنظمة التي سيؤول إليها أمر تلك الأوطان، بقطع النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة، فلا أحد ينكر أنه في غياب منظومة حقوقية، تحترم المعايير الدولية، يستعمل اللاجئون ورقة ابتزاز سياسي.
 ومن الغريب أن جل المنظومات العربية القانونية غير معنية، تماماً، بمنظومة حقوق اللاجئين، أو هي مقتصرة على جزئياتٍ، يترك للأجهزة التنفيذية مطلق السلطات التقديرية لتكييفها على أرض الواقع. ففي أكثر من بلدٍ عربي، تفتقد وضعية اللاجئين أبسط قواعد التعامل الإنساني، وخلو الدساتير العربية من إشارة إلى اللاجئين دليل على ذلك التقصير المخجل. ونتذكر حالات القتل الجماعي والاغتصاب الذي تعرض إليها لاجئون فلسطينيون بعد سقوط بغداد.  وتكرر الأمر نفسه في أكثر من قطر عربي، ولو استرسلنا في ذكر الحالات، لكان ذلك بمثابة رش الملح على جرحٍ مفتوحٍ وغائر.
يفضل بعضهم تعويم المسألة، مدغدغاً مشاعرنا القومية، وأخلاق "الكرم التي جبل عليها العربي"، حتى نزهد في مراجعة المنظومة القانونية المتعلقة باللاجئين. ولكن، هذا خطاب محتال ومخاتل، يتنصل، بلباقةٍ، من الشروط الدولية والمعايير المتعلقة باللجوء. نقيم الدنيا ولا نقعدها، حين يتعرض اللاجئ، أو المهاجر العربي، إلى معاملةٍ سيئة في الدول الغربية، ونبتكر أشكال الإدانة والتعاطف الإنساني، ما يعبئ المجتمع المدني العالمي. ولكن، للأسف، يقدم العرب أبشع الحالات في التعامل مع اللاجئين، بمن فيهم "أشقاؤهم" العرب. حيل وحدة المصير والأخوة العربية تعوق دون إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في التعاطي القانوني مع اللاجئين عربا و/ أو غيرهم. لذلك، علينا أن نفصل بين المشاعر الأخلاقية، على نبلها التي قد تردف العمل الإنساني، والمعايير والمواثيق الدولية. جربنا في تونس إبان محنة استقبال ملايين اللاجئين الفارين من الحرب الطاحنة في ليبيا، قبيل سقوط نظام القذافي، أن التعويل على العاطفة قد يخلق، في مفارقةٍ غريبةٍ، أشكالاً من العنصرية في استقبال جنسيات غير عربيةٍ، كما أن التعويل على المد التضامني المدني والأهلي لا يمكن أن يكون بديلاً من العمل القانوني، وفق ما تقتضيه معاهدة جنيف 1951 وبقية المدونة القانونية ذات الصلة.
التعبئة الأهلية ظرفية، وهي غير قادرة، أصلاً، على المداومة والاستمرار، وقد تترك سلطات تقديرية واسعة للأجهزة الحكومية، فضلاً عن الجمعيات والمنظمات، بحسب إمكاناتها وخلفيتها الثقافية.
لا يمكن، تماماً، أن نستبعد تزايد أشكال توظيف اللاجئين واستغلالهم في واقع من الهشاشة النفسية والاجتماعية. فالمتاجرة بهم، قبل المتاجرة بقضيتهم، تصل إلى أبشع أنواع التعامل مع اللاجئين. تنمو حالياً شبكات الدعارة والإرهاب والتهريب في فضاءات عدة من مناطق اللجوء في عالمنا العربي، كما لا يمكن، تماماً، أن نستبعد فرضية نمو "اقتصاد اللجوء"، حيث تزدهر قطاعات معينة ذات صلة باللاجئين، أو المهجرين، على غرار قطاع التأجير والعقارات وغيرها.
كيف يمكن أن نعزز آليات التمكين للمهاجرين والتغطية الحقوقية الكاملة لهم، كالحق في التعليم والصحة وغيرها، في مناخ تتنامى فيه مشاعر الكراهية والعنصرية التي أشرنا إليها سابقاً، حتى نحترم المعايير الدولية. تلك هي مهمة نبيلة على الثورات العربية أن تنجزها، باعتبار هذه الثورات عنواناً للكرامة الإنسانية.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.