تفسير "جنسي" للثورات العربية

تفسير "جنسي" للثورات العربية

17 ابريل 2014
+ الخط -

 

ذات مساء، وعلى رصيف "مفترض" في الفضاء التخيلي، تعرّف عليها، حينما كان ضجراً، يبحث عن أنيسٍ في جوف الليل. أطلت بلهفة الغريب الذي وجد من يشاركه وحشة الأرصفة الباردة. تمرّغا في أثير الرغبة المعتقة انحباساً وخوفاً، و"أفرغا" رغبةً حبيسةً منذ أمد بعيد، لم تجد لها متنفساً غير هذا الفضاء، كأنها نبع انبجس من باطن الأرض فجأة، فغسل روحيْهما، وتحولا إلى "قديسيْن" صغيرين، وجدا، بعد ذلك، متسعاً لتبادل عبارات الترحيب التقليدية، والتعارف، فقلبا بذلك المقولة الشعرية العريقة: نظرة، فابتسامةٌ، فسلامٌ، فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ. حيث يبدأ "اللقاء الحميم" قبل أية مجاملاتٍ يُسقطها انهيار الجدران، في فضاءٍ لا حدود زمانية، أو مكانية، له.
هنا، تحديداً في إعادة ترتيب مراحل العشق التقليدي، تكمن المسألة، فنحن أمام "تراتبية" من نوعٍ جديد، إذ كانا على بعد مئات الأميال. لكن، ربطهما حبلٌ سريٌّ شد وثاق القلبين والجسدين، بعد استرخاءٍ لم يطل، تفجر شوقٌ لتواصلٍ أكثر حميمية. كتبت له رقم هاتفها، مد يده لسماعة الهاتف، فهبط صوتُها بعجائبية مثيرة، أَعاد إليه صوت الندى حين يتسلل هابطاً إلى أوراق الشجر، في الهزيع الأخير من الليل، أَكملا مشوار الرغبة المكبوتة، وتباثّا الشجن وبدّدا الوحشة. كانت تلك البداية، تلتها بداياتٌ أخرى، حتى أَنهما "تزوجا" في أحد منتديات الدردشة الصوتية، المنتشرة في الفضاء التخيلي على الشبكة العنكبوتية، وزفّهما إلى غرفة دردشةٍ معزولة من حضر من زملاء برلمان "التشات"، ولم يلبثا أن "أنجبا!" ابنة أطلقاها تجول مواقع الدردشة والتحاور، من دون رقابة. ظلا على هذا الحال دهراً، إلى أن "طلقته"، وغابت فجأة كما ظهرت، كحورية البحر الأسطورية التي نصفاها سمكة وامرأة، فيما ظلت "ابنتهما" تحلق في الفضاء التخيلي، تتجول بين المواقع، تتحرش بهذا وتتعارك مع تلك!
لم تكن تلك قصةً من نسج الخيال، إنها واحدة من آلاف القصص التي بدأت تقيم واقعاً جديداً متخيلاً على شبكة الإنترنت، بموازاة الواقع الحي الملموس، الذي يعيش في مدن الإسمنت والصفيح!
في غفلةٍ من معظمنا، يتشكل منذ زمن مجتمعٌ عربيٌّ رقمي، ينشئه شبابٌ وشابات، ومتطفلون على حدود الكهولة، يتخذون غرف الدردشة ساحةً للتحاور وتبادل الأخبار والصور والأفلام وكل شيء، بلا رقيبٍ، أو مرشدٍ، أو سلطة. لا ممنوعات أو محظورات أو تابوهات مقدسة. لا أبواب أو سقوفاً تحدّ من النمو والاشتباك والتحاور والتدابر. يدخل الكل بأسماء مستعارة، بلا بطاقة هوية وبلا تفتيش، وبلا "تأشيرة دخول" ويبدأون في النقاش عن كل ما يخطر وما لا يخطر ببال. يطرحون كل شيء على الطاولة، إنها ثورة ذات شكل جديد، تنشئ وعياً ما، مشوهاً أو مكتملاً، لا يهم. كثيرون من أعضاء "المجتمع التخيلي" هذا يضعون الجنس في مقدمة أولوياتهم، ولدى كثيرين، أيضاً، جوع من نوع آخر، إنه الشوق للحرية والانعتاق من المساءلة. لهذا، تراهم يناقشون أكثر القضايا التي تمر بالوطن العربي من دون حساسية، وما إن يقع حادث ما، حتى تجري عميلة تبادل فورية للأخبار، تنطلق في الاتجاهات كافة بسرعة البرق. إنه أسلوب جديد لممارسة أخطر أنواع الشفافية، من دون أية رتوش أو "إعادة تحرير"! إنه في الأمس القريب، شهدت مصر مليونياتٍ في الشارع، وثمة مليونياتٌ أخرى في الفضاء التخيلي، أَحدثت وستحدث التغيير، اليوم أو غدا، بعيداً عن أية رقابة. وهنا تحديداً،

أستدعي رأي صديقي، صاحب "نظرية التفسير الجنسي لثورات الربيع العربي"، اتفقت معها أو اختلفت، هي تحمل "وجاهةً" من نوع ما، تأسيساً على ذلك النشاط الشبابي المزدحم على شبكة الإنترنت، حتى قبل دخول شبكات التواصل الاجتماعي على الخط، لتجعل من عملية نشوء "المجتمعات الافتراضية" أكثر سهولةً وسلاسةً ويُسراً، بعد أَن أَتاحت المجال لتحول غرف الدردشة العامة والخاصة إلى ساحاتٍ مفتوحةٍ للتواصل الجماهيري، وتبادل الأفكار، وصناعة الثورات، عبر "ضرب المواعيد" للنزول إلى الشارع، أَو التجمع في منطقةٍ ما، أو بث معلومةٍ مركبةٍ من "الملتيميديا" و"تطييرها" إلى أركان الدنيا الأربعة!

يقول صديقي صاحب النظرية العتيدة: بعد أَن ينتهي الشباب من إِفراغ "كبتهم" المزمن، كانوا يتحولون إِلى كائناتٍ رائقة التفكير، تخلصت من "شقائها الجنسي"، لتنطلق في "تقويم" حالها المرير، ولتولد من حالة العصف الذهني الجمعي، المتحلل من كل قيد أو خوف، رؤىً جمعية، تنصبُّ نحو طرق رفض الواقع، وإشعال فتيل "التغيير"، ووافق هذا حالة هياج جماهيري، ورفض كوارث الواقع السياسي والاجتماعي، فالتقطت الجماهير التي قتلتها مشاعر البؤس والحرمان شعلة الغضب الشبابي، فكانت الثورة، وتدفق الناس إلى الشوارع!
ربما يكون فيما يقول صديقي بعض الشطط، لكنه يحمل في طياته دعوةً للتأمل، والبحث، فربما يكون وضع يده على مفتاحٍ جديد، لفهم آخر لمحركات الجماهير واندفاعها إلى التغيير.