هل تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟

هل تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟

26 ديسمبر 2014

ناخبة تونسية تدلي بصوتها في الانتخابات الرئاسية (ديسمبر/2014/ أ.ف.ب)

+ الخط -
لأن تونس الخضراء كانت، قبل سنين أربع، مهد ثورات العرب، ولأنها ما زالت، على الأقل إلى الآن، آخر قلاع الثورة صموداً أمام رياح الثورات المضادة العاتية، فإن كثيرين قد يكون أصابهم إحباط من نتائج انتخاباتها الرئاسية الأخيرة، والتي جاءت لتزيد من مخاوف وقوع رِدَّةٍ تعود بها إلى مرحلة الحكم الاستبدادي التي عرفتها البلاد عقوداً طويلة.

لا شك أن فوز الباجي قايد السبسي، وهو ابن نظامي الرئيس الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، على المناضل الحقوقي، والرئيس المنتهية ولايته، الدكتور منصف المرزوقي، يعد مؤشراً سلبياً لحقيقة الوضع العربي برمته، اليوم، بعد وأد ثوراته، كما في مصر واليمن، أو استنزافها وحرفها عن مسارها، كما في سورية وليبيا. وجاءت الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس لتكمل دائرة المَكْر بحركة الشعوب، من أجل الانعتاق والحرية، أو هكذا يراد لها، عبر عودة رموز من عهد بن علي، للتحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وليس سراً أن الدول والأنظمة التي استثمرت في فوضى ليبيا وسورية واليمن، وانقلاب مصر، هي نفسها من استثمرت في إيجاد حالة الإرباك والانقسام والتوجس في تونس، خلال سنوات حكم الترويكا، عبر المجلس التأسيسي الوطني التونسي، التي ابتدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وانتهت، عملياً، مطلع هذا العام، بعد تنازل حركة النهضة، مضطرة، عن رئاسة الحكومة، على الرغم من أنها كانت حزب الأغلبية، إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ولأن الوضع في تونس قام، منذ اليوم الأول للثورة، على صيغة ائتلافية انفتاحية توافقية في الحكم، بين مكونات الترويكا الثلاثة: حركة النهضة الإسلامية، برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، برئاسة المرزوقي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، برئاسة مصطفى بن جعفر، فإن مناعته أمام رياح الثورات المضادة كانت أكبر من النموذج المصري. أين أخفق الإسلاميون، أو أُفْشِلُوا، لا فرق، في اجتراح ائتلاف توافقي حاكم متجاوز للأيديولوجيا والانتماء الحزبي، غير أن مناعة الوضع التونسي، كما نعرف اليوم، لم تكن كاملة، فانتهى الحال بأحزاب الترويكا والثورة، إسلاميها، وقوميها، واشتراكيها، خارج معادلة الحكم الجديدة (اللهم إلا إذا تمّ إشراك النهضة، من حيث كونها الحزب الثاني من حيث المقاعد، في حكومة "نداء تونس"). ولكن، هذه المرة عبر صندوق الاقتراع.

إذن، سواء تمَّ الأمر بانقلاب، أم بفوضى، أم عبر صندوق الاقتراع، فإن الوضع العربي، في مجمله، يبدو وكأنه يسير بخطى عكسية إلى مرحلة ما قبل الثورات العربية، وهو الأمر الذي يُشَرِّعُ طرح السؤال القائل: هل تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟ ويزيد من أهمية طرح هذا السؤال، أنه من الواضح أنه قد أُلْقِيَ في روع شعوب عربية كثيرة أن بديل الحكم الاستبدادي الشمولي القمعي هو الفوضى واللااستقرار.

وللإجابة عن السؤال أعلاه، ينبغي، بداية، أن ننبه، هنا، إلى أنه قائم على افتراضات ومقدمات خاطئة. فالمنطقة العربية، بما فيها الدول التي عُرفت بدول الثورات، لم تنفك أصلاً، حتى في ذروة عزِّ ثوراتها، من إسار بنى الأنظمة الاستبدادية التي كانت، ولا زالت، قائمة. ما جرى حينها أن ما نسميها، اليوم، "الدولة العميقة" قد توارت، في بعض الدول، عن الأنظار برهة، وإن بقيت ممسكة بمفاصل القرار، إلى حين تمكنت، عبر تحالفات محلية وإقليمية ودولية، من استعادة زمام الأمور، وبسط سيطرتها الشاملة من جديد.

أبعد من ذلك، وهو الأهم في هذا السياق، أن كثيرين منا تسرعوا بوصف تلك الثورات بـ"الربيع العربي"، وهي لم تكن يوماً ربيعاً، فشروطه لم تتحقق حينها، كما أنها لم تتحقق اليوم. ولأن بعضهم بنى معادلاته وتقويماته على أساس "الربيع"، فإن إجهاضه أصبح يعني، تلقائيا، شتاء ساخناً. يستلزم الربيع، أولاً، وعياً مجتمعياً بضرورة التغيير الجذري، وكتلة تاريخية عابرة للأيديولوجيا بين الأحزاب والقوى السياسية والنخب الفكرية، متوافقة على مشروع تشاركي بحدود دنيا. ولكن، بمواصفات جذرية، للتغيير، فضلاً عن التوافق على قواعد اللعبة لمرحلة انتقالية، إلى حين تثبيت التغيير، وإيصاله إلى بَرِّ الأمان. أضف إلى ذلك أننا، اليوم، نعرف أن أي تغيير لا تكون رياحه عامة وشاملة لمجمل الوضع العربي، في وقت واحد، لن يكتب له النجاح. فما دام أن ثمة أنظمة مؤثرة، وتملك مالاً وفيراً، وتخشى على عروشها، بقيت خارج نطاق عاصفة التغيير المجتمعي، فإنها ستكون قادرة على العمل، من جديد، على لَمِّ شعث أي نظام تتهاوى واجهاته في دولة ما.

كل ما سبق لم يكن متوفراً للثورات العربية، بل حتى إن قوى كثيرة صَدَّرَتْها الثورات مارست الخداع بحق نفسها، ومع شعوبها، عندما طمأنتهم إلى مصير "ربيعهم"، وخذ مثالاً على ذلك تونس نفسها. أليس الشيخ راشد الغنوشي هو من لا زال يُبشرنا بأن "الاستبداد لن يعود أبداً إلى تونس"، وهو يعلم أن مداميكه لم تُدَكَّ يوماً فيها بشكل كليّ!؟ لن أكتفي، هنا، بالتذكير بكيفية إخراج "النهضة" من الحكم عبر التهديد بقلاقل مجتمعية وسياسية مصطنعة ومفتعلة، على الرغم من أنها، مرة أخرى، لم تسع إلى الهيمنة، وحكمت تشاركياً، على عكس ما اتهم به إخوان مصر. بل أريد أن أشير إلى مثال آخر، يؤكد معطى الخداع الذاتي الممارس من بعض قوى الثورة. فمجرد أن تخشى "النهضة" إعلان دعمها الصريح لمرشح الثورة، المرزوقي، على الرغم من تأييد كل قواعدها وجُلِّ قياداتها له، يعطينا دليلاً أن تونس لم تتحرر بعد من بنى الاستبداد التي تكرست، على مدى عقود طويلة، وفشلت الترويكا في عزل رموزه سياسياً.

كخلاصة، نعم، لا تعود عقارب الساعة إلى الوراء، والخلط والإشكال، هنا، ترتب على قراءتنا الخاطئة والمبالغ فيها لما جرى في ذروة الثورات، ذلك أن ثوراتنا لم تحقق نجاحاً كاملاً لانتشالنا من الواقع المُرِّ الذي نروم تغييره، كما أننا لم ندخل يوماً "الربيع" لنخرج منه. ولكن، هذا لا يعني أن الثورات العربية لم تكن بنيوية، بل هي كذلك، وارتداداتها الأخطر لمَّا تأت بعد، ذلك أن حجراً قد ألقي في بركة الماء الراكد. ونحن، وإن كنّا نمر، اليوم، بفترات حرجة ومؤلمة، وربما يكون القادم أعظم وأصعب، غير أننا دخلنا، راغبين أم كارهين، مرحلة المخاض التي سَيَتَخَلقُ فيها ربيعنا، بشرط أن نحسن التخطيط والعمل.